“أخرج أطلٌب الله (أتسوّل) على جهّالنا مافيش معانا فلوس لنأكل ونعيش، وعندنا تكاليف كثيرة ومصاريف وإيجار البيت ودارسة الأطفال”، بهذه الكلمات اختزلت دُعاء الثلاثينية من أبناء فئة المهمشين (ذوي البشرة السمراء) أحوالها المعيشية التي دفعتها إلى التسوّل للبحث عمّا يسد رمق أطفالها الخمسة ويغطي الاحتياجات المعيشية.
تجوب دعاء شوارع مدينة تعز كل يوم من مطلع الفجر حتى غروب الشمس، لتعود بعدها لأخذ أطفالها من منزل والدتها، حاملةً لهم بعض الطعام والشراب، إذ تضع أطفالها عند والدتها كل يوم حينما تخرج للتسوّل، وترجع عشيّةَ كل مساءٍ لتأخذهم إلى المنزل، وتقضي كل يومها في الشوارع بعيدةً عنهم، هكذا هو نمط الحياة اليومية لدعاء.
الحاجة مُذِلّة
تقول دعاء إن ظروفهم سيئة للغاية، ولا يقدرون على تحمل عبء المصاريف والتكاليف المعيشية، إذ يعمل زوجها سائقًا لدراجة نارية، ولا يقدر على توفير ربع احتياجاتهم، خصوصًا مع ارتفاع المشتقات النفطية وأسعار الغذاء في المدينة، وأحيانًا لا يقدر على تشغيل الدراجة والذهاب للعمل. “أني أخرج للتسوّل صَميل عليّ (مضطرة)، مِن شدّة حاجتي، وهذا مش بإرادتي، والناس تقول إنه معانا فلوس ونخرج نتسوّل، لكن مش عارفين بوضعنا”، تضيف دعاء بلهجتها البسيطة.
وتتابع في حديثها لصوت المهمشين وهي تذرف الدموع، “لو معانا فلوس ومرتاحين ومكتفيين، ماعد بنخرج نتسوّل ونتبهذل بالشوارع وبين الناس ونحصل إهانات ومضايقات”، وتذكر دعاء أنه عند عودة زوجها إلى المنزل كل يوم من دون أن يُحضر الطعام والمصاريف، تتعالى أصوات بعضهم على بعض وتنشب المشاكل بينهما، وتضطر إلى طرده من المنزل، ولهذا لم يكُن لديها خيار غير الخروج للتسوّل.
هكذا هو الحال بالنسبة لبعض الأسر المهمشة التي تخرج للتسوّل بسبب سوء الأحوال وتفاقم الحاجة وضرورة العيش والبقاء، نظرًا لعدم قدرة الزوج على توفير المصاريف أو الحصول على عمل مناسب، لكن يبدو أن الأسباب تختلف من أسرةٍ إلى أخرى، إذ على نحوٍ مختلف التقينا بالعشرينية فاطمة، وكانت برفقة طفليها تجوب شوارع وأزقة المدينة للتسوّل.
تقول فاطمة إن زوجها لا يخرج للبحث عن عمل وإنه يجبرها على الخروج هي وأطفالها للتسوّل والبحث عن الطعام، ويعتمد عليها في توفير المصاريف والأكل وكيس القات، “زوجي ما يرضي يخرج يشتغل، أو حتى يبحث عن شغل وإن كان بسيطًا، راقد طول اليوم ويشتي مني أخرج أطلّب (أتسوّل) أني وأطفالي ونرجع له بمصاريف لعنده للبيت، وأني ما عندي حل غير أتسوّل عشان نعيش”، تضيف فاطمة لصوت المهمشين.
الاتكالية “المُفرطة”
كثيرة الأسباب التي تقف وراء توسّع وانتشار ظاهرة التسوّل في أوساط المهمشين، وغالبًا ما يكون الفقر سببها الرئيسي، ويكون الاتكالية المفرطة والاعتماد عليها في الدخل سببًا بارزًا، إلى جانب التقييم الاجتماعي الذي اعتادت عليه هذه الفئات، إذ التسوّل لا يمس وضعها الاجتماعي المُتدنّي، بمعنى أن المهمشين لا يتحاشون النظرة الاجتماعية لهم، كما يرى نائب مدير مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل بمحافظة تعز وأستاذ علم الاجتماع، الدكتور محمود البكاري.
ويقول الدكتور البكاري لصوت المهمشين: إن الاعتياد على مهنة التسوّل وما يحصل عليه المتسوّل من مردود مادّي من دون عناء وتعب، أمر يشجع على الاستمرار في هذه الظاهرة التي قد تُعدّ مربحة أكثر من ممارسة أي نشاط أو عمل، بل حتى أكثر من أي مبالغ يحصل عليها من شبكة الضمان الاجتماعي.
ويشير البكاري إلى أن ظاهرة التسوّل تنتشر بشكل أكبر لدى الفئة المهمشة تحديدًا بين الأطفال والنساء من أفراد الفئة، باعتبار أنهم أكثر قدرة على التأثير واستعطاف الآخرين من دون التفكير بأي مخاطر قد يتعرضون لها أثناء ممارسة التسوّل في شوارع وأحياء المدينة.
وعلى ذات الصعيد، يتفق الأمين العام للاتحاد الوطني للمهمشين، صالح المضّي مع أن معظم المهمشين يعتمدون على ظاهرة التسوّل والاتكالية منذ الصغر، وأنهم تعوُّدوا على إخراج أطفالهم ونسائهم للتسوّل والحصول على الأموال بسبب الفقر والتهميش وعدم حصولهم عمل ووظائف؛ مشيرًا إلى أن الظاهرة أصبحت عادة يمارسها المهمشون.
ويوضح المضّي لصوت المهمشين أن هناك من المهمشين من يرى أن التسوّل مهنة مربحة للغاية، وأنها أسهل طريقة للحصول على المال، وبالتالي يتعمدون ممارسة التسوّل، حتى إن كانوا يقدرون على العمل، لافتًا إلى أن أكثر من 60% من المهمشين في مدينة تعز يعملون في التسوّل، خصوصًا الأطفال والنساء، ويعتمدون عليها في العيش وتوفير سبل الحياة.
ويذهب المضّي في حديثه إلى أن هناك أسبابا أخرى تدفع النساء المهمشات على وجه الخصوص للتسوّل، أبزرها الطلاق الذي يُعدّ عاملاً مهمًا ومُسهمًا في انتشار الظاهرة، إذ بعد الطلاق أو الخلع تصبح المرأة المهمشة بلا مُعيل، وتتخلى عنها أسرتها ماديًا، ولمّا كان معظم النساء المهمشات لسنَ متعلمات ولا يمتلكن مهنا أو أعمالا، يُعدّ التسوّل خيارهن الوحيد، خصوصًا إن كان لديهن أطفال ويعملن على إعالتهم، كما يقول المضي.
مخاطر “جسيمة”
إن المرأة هي أكثر من يمتهن التسوّل من بين أفراد فئة المهمشين، وبالتالي تعدّ الأشد عرضةً للمخاطر التي قد تصادفها أثناء العمل في التسوّل، سواءً من أبناء الفئة أم من فئات المجتمع الأخرى، ويشير المضّي في هذا الخصوص إلى أن المرأة المهمشة تتعرض للمخاطر والمضايقات والتحرش الجنسي والجسدي والاستغلال، وهناك من النساء من يتعرضنَ للاغتصاب أيضًا، وهو ما يشكل خطورة كبيرة على حياتهنّ.
وفي هذا الخصوص، تؤكد دراسة حديثة لمركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية أن النساء اللاتي يعملن في التسوّل يتعرضن للعنف والتحرش اللفظي والجسدي لأنهنّ نساء في مجتمع “أبوي”، ومهمشات في مجتمع “مُتحيز”، وفقيرات اضطررنَ إلى التسوّل، لافتةً إلى أن المتسوّلات يتعرضنَ إلى مجموعة من المخاطر المتمثلة بالإساءات والاعتداء والعنف الجنسي بسبب وجودهنّ الدائم في الشوارع.
وتقول الدراسة إن الاعتماد على النساء المهمشات زاد في أثناء الصراع الدائر لتأمين لقمة العيش لعائلاتهن رغم التحديات والمخاطر التي يتعرضن لها، والتسوّل شائع نسبيًا بين المهمشات، إذ يعدّ عملًا أساسيًا داخل مجتمعهنّ، وقد دفعت الحرب وتفاقم الأوضاع المعيشية كثيرا من النساء غير العاملات أو العاملات في وظائف أخرى إلى الشوارع للتسوّل، وأصبحت مهنة رئيسية لمعظم المهمشات، وترسل الأسرُ نساءها إلى الشوارع للتسوّل باستمرار.
ووفق دراسة أجريت عام 2020 على مجتمع المهمشين في محافظات عدن وتعز والعاصمة صنعاء وأمانتها، تبين أن نسبة 49% في محافظة عدن تؤمن الأسر المهمشة الطعام بالتسوّل، ونسبة 11% في أمانة العاصمة، أما في محافظة تعز فبنسبة 17%، وكانت الأسر التي تعمل على التسوّل باستمرار في محافظة صنعاء بنسبة 100%، وفي أمانة العاصمة بنسبة 37%، وفي عدن بنسبة 12%، أما في تعز فكانت بنسبة 53%، على أن الاحصائية الخاصة بتعز تعود لعام 2014، وقد تضاعفت كثيرًا في السنوات الأخيرة بحسب الدراسة.
حلول تفتقر للدعم
يرى المضّي أن هناك حلولا عديدة قد تُخرج المهمشين من وحل ومستنقع التسوّل الذي يعود بتداعيات اجتماعية سلبية للأسرة المهمشة، لكن تفتقر للدعم سواء من الحكومة أم من الجهات والمؤسسات والمنظمات الإنسانية المعنية والمهتمة، بحيث قد تساعد هذه الحلول في التخفيف من حِدة الظاهرة في الوقت الحالي، غير أنها في المستقبل ومع مرور الزمن قد تساعد في التخلص منها وإنهاء التسوّل في أوساط المهمشين.
ويقول في حديثه لصوت المهمشين: إن تلك الحلول تتمثل في إيجاد البديل عن التسوّل، بتوفير بديل للدخل وكسب المال، حتى يجعلهم يمتنعون عن التسوّل بشكلٍ طوعيّ، ويتحقّق ذلك بتأهيل المهمشين رجالاً ونساءً، بالعمل على تدريبهم في حرف ومِهن وأشغال تمكّنهم من الخروج إلى سوق العمل، والتمكين الاقتصادي، والمبادرة بإنشاء مشاريع صغيرة لهم، مُدرّة للدخل عبر توفير لهم الأدوات والإمكانيات اللازمة.
ويؤكد المضّي أن المهمشين عندما يُمكّنون اقتصاديًا وتُوفر لهم الإمكانات، وتُوفّر فرص عمل للمؤهلين ومن لديهم مؤهلات علمية ويوظّفون سواء في القطاع العام أم الخاص، سيبدؤون على الفور في العمل باعتبار أنهم أكثر الفئات العاملة في المجتمع اليمني، وهذا الأمر سيجعلهم يعتمدون على أنفسهم ويسعون لإعالة أسرهم بالعمل، وتطوير وتنمية المشاريع الخاصة بهم، ولن يكون هناك أي داعٍ أو حاجة للتسوّل.
ويلفت المضي إلى ضرورة أن تشمل شبكة الضمان الاجتماعي جميع الأفراد المُسنّين والمعاقين من أبناء الفئة ممن لا يستطيعون العمل أو من لديهم أمراض مُزمنة، مشيرًا إلى أنهم في الاتحاد حاليًا لديهم كشوفات في حدود 895 أسرة مهمشة بحاجة لإلحاقها بالضمان الاجتماعي، وكانوا قد عملوا على تقديمها للصندوق الاجتماعي بالمحافظة، لكن ليس هناك تجاوب، غير أنه في الوقت الحالي يصل عدد المعتمدين في الضمان لدى الصندوق إلى نحو ألفي أسرة مهمشة.