المهمشون نصب أعين الأحزاب السياسية في اليمن

في اليمن شريحة واسعة من المهمشين توجد في مختلف المناطق والمدن، وتعيش وضعا مأساويا وعزلة اجتماعية، فقد فرض عليهم الواقع البقاء في هامش الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي دفعهم إلى الانزواء وتفضيل العيش في تكتلات منعزلة عن المجتمع، فغالبيتهم يعيشون في تجمعات تتكون من الأكواخ المبنية من القش أو الصفيح أو غيرها من المواد الرخيصة التي يستطيعون الحصول عليها؛ إذ يبنون منازلهم التي لا تقيهم حر الشمس أو برد الشتاء، في أماكن تسمى “محاوي” ، ويظل التمييز العنصري مرافقا لمعانتهم، وهو ما جعلهم خارج حسابات الدولة والأحزاب السياسية.

يُطلق على المهمّشين باليمن تسمية عنصرية شائعة “الأخدام”، وهي تسمية تجرّدهم من الآدمية وتجرح كرامتهم، وهم يمنيون لا ينتمون إلا إلى اليمن، وإن كانوا يتميزون عن أغلبية السكان بملامحهم الأفريقية وبشرتهم السوداء. وترجح بعض المصادر التاريخية أن أصولهم تعود إلى الحبشة، وأنهم بقايا الدولة النجاحية التي حكمت اليمن منذ قرابة 1000عام تقريبا، ولذلك يعدّون مواطنين من درجة دُنيا، وقد يوصفون بأنهم غير يمنيين أصلا.

يعيش المهمشون في ظل عنصرية ممنهجة حرمتهم من حقوقهم الاجتماعية والإنسانية، وتسببت في إقصائهم من التمثيل السياسي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية أو حتى المحلية، كما يقول أفراد المجتمع المهمش.

ومما لا شك فيه أن التعددية الحزبية والسياسية هي إحدى الأدوات الديمقراطية التي من خلالها يمارس المواطنون حقوقهم السياسية والتمثيل بالسلطات الثلاث، وكغيرهم من الفئات والشرائح الاجتماعية، كان المهمشون محلّ اهتمام بعض القوي الحزبية، وذلك بسبب كثافتهم العددية، التي جعلت منهم حالة للاستقطاب الحزبي عوضاً عن دمجهم ضمن الأطر الحزبية. تعاملت كثير من الأحزاب والقوي السياسية معهم كصوت انتخابي فقط، ولم تُقْدِم على اتخاذ أي خطوة إيجابية في تمكينهم ضمن الخارطة القاعدية والقيادية لها، ويُعدّ خلوّ غالبية الأحزاب السياسية من الممثلين المهمشين في هيئاتها القيادية تهميشا يخلّف أثراً سلبيا في نفوسهم، وقد يكون أحد الأسباب لغياب التمثيل لهذه الشريحة في مؤسسات السلطات التنفيذية والتشريعية للدولة، ليضاف ذلك إلى التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه مجتمع السود في اليمن.

كان لدى معظم أبناء هذا المجتمع أمل كبير عند سماع الخطابات الرسمية التي يلقيها المسؤولون، وهم يتحدثون عن المهمشين، والتي تدور في مجملها حول تحسين أوضاعهم معيشياً واجتماعيا وخلق البيئة المناسبة التي تسمح لهم بالمشاركة الفعالة في المجتمع والاندماج في الحياة العامة. بينما يرى البعض أن تلك الخطابات خالية من المضمون، بعيدة كل البعد عن أرض الواقع، وليس للمهمشين منها إلا الكلام المنمّق. ويُعد مجتمع المهمّشين المجتمع الوحيد غير المخول له بالمشاركة في صنع القرار المحلي، رغم أن ذلك حق أساسي، لكن موانع الإقصاء والتهميش تحرمهم من ممارسة الحياة السياسية والتمتع بهذا الحق الذي كفله الدستور والقانون لهم كيمنيين.

وعلى الرغم من وجود أقليات أخرى في اليمن، تُعدّ شريحة المهمشين هي الأكثر معاناة. وتُعدّ قضيتهم واحدة من أكثر القضايا اليمنية تعقيداً على مختلف الأصعدة، وقد ساعدت العوامل السياسية في استمرار المعاناة بعيداً عن العدل والمساواة بين المنظومات الطبقية في الحقوق والواجبات. فغياب هذه الفئة عن التمثيل في أي دور سياسي أو إداري في أوساط تلك الأحزاب أحد أسباب عزلتهم الاجتماعية، كما يتصور البعض منهم، إضافة إلى افتقارهم إلى السلطة الاجتماعية والسياسية للضغط على قادة المجتمع المحلي لدمجهم في مختلف الأصعدة، وقد كان من المفترض أن تبادر الأحزاب إلى مساعدة الأقليات السود في حل قضاياها وتمكينها بقدر ما تسعى إلى ضمان كسب أصواتهم. وفي الحقيقة تنظر الأحزاب السياسية إلى مجتمع السود بأنهم أصوات انتخابية فقط، وهي تغلق أمامهم أبواب التمكين السياسي والاندماج والاجتماعي.

وعلى الرغم من تعدد المكونات السياسية في اليمن، يعمل كثير منها خارج إطار أهدافها وأنظمتها التي من شأنها تحقيق العدل والمساواة وإصهار العنصرية بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وذلك من خلال قيام نظام مجتمعي عادل يساعد على التخلص من التفرقة الطبقية وتحسين حياة الناس، لكنها بالنسبة المهمشين شعارات وجودها كعدمها، وقد اعتادوا على عدم الإيفاء بالوعود. وقد كان الأحرى أن تبادر الأحزاب إلى وضع برنامج يساعد على تحسين أوضاعهم المعيشية والاقتصادية، وتساعد على انتشالهم من الحضيض، من خلال التمكين الشامل ومنح أبنائها أدوارا في المجتمع أو في المقاعد القيادية في الحزب، وهذا ما يظهر حقيقة التهميش والتمييز السياسي.

في أواخر السبعينيات في جنوب اليمن، تأسس الحزب الاشتراكي متبنياً قضايا العدالة الاجتماعية والتسوية بين أبناء المجتمع الواحد. عاش المهمشون في تلك المرحلة الانتقالية حالة انتعاشيه مستقرة إندماجية وتسوية اجتماعية وسياسية واقتصادية، ومن دون فوارق طبقية أو تمييز عنصري. وما زال الذين عاصروا فترة حكم سالمين يتذكرون صدى الهتافات التي كانت تُردّد عندما خرجوا يجوبون الشوارع في عدن وهم يهتفون: “سالمين قُدّام قُدّام. سالمين ما احناش أخدام”، ولم تعرف تلك الفئة الاندماج الاجتماعي التام وإلغاء التهميش في عدن والمناطق الجنوبية إلا في فترة حكم رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابق “سالم رُبيّع علي” المعروف بـ”سالمين” 1969م-1978م، وكان أول قرار أصدره هو منع التخاطب بالألقاب.

ولم يكافح سالمين التمييز الاجتماعي بأسلوب الحديد والنار، بل بقوانين أوجد لها رقابة فاعلة؛ فقد سن قانون عقوبة يتمثّل بالسجن ستة أشهر لمن يخاطِب المهمشين بوصف “خادم”، وأتاح فرص الدراسة والتعليم للفئات المهمشة، وشجّعها على الانخراط في كل مؤسسات الدولة، بما فيها الأمن والجيش. وقد تخرّج كثير من هذه الفئة من المدارس والجامعات في الدول الاشتراكية كالصين وكوبا وألمانيا الشرقية، وعادوا محاميين ومهندسين وضباطا في الجيش، وبعد انتهاء حكم الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن عام 1990م وإعلان الوحدة بين الشطرين: اليمن الشمالي (الجمهورية العربية اليمنية) والشطر الجنوبي (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) تحوّلت هذه الشريحة إلى أصوات انتخابية ولم تحظَ بأي اهتمام شمالاً وجنوباً.

وعلى الرغم من مشاركة المهمشين بالتصويت في الانتخابات منذ ١٩٩١م وحتى عام ٢٠١٢م عن طريق اللجان الفرعية والمشايخ القبليين عبر الاقتراع، ظلّوا الأكثر حرماناً وتهميشاً من بين فئات المجتمع الأخرى في الحقوق والتمثيل السياسي، فلا يغيب على أحد مواسم الانتخابات والسباق التنظيمي إلى أماكن تجمعاتهم ومخيماتهم لشراء أصواتهم مقابل ثمن بخس ووعود لا يُوفى بها.

ويُعدّ المؤتمر الشعبي العام والإصلاح أكثر الأحزاب التي تستقطب هذه الفئة، ولكنها لم تبادر إلى معالجة قضاياهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولم تمكنهم من المواطنة المتساوية. بينما يعيش المهمشون وضع استثنائياً مأساوياً وفقراً مدقعا، منعزلين عن المجتمع، مجرّدين من أبسط حقوقهم المشروعة، إضافة إلى الفقر الذي وضع الجهل في طريقهم، وأوجد فراغ تعليميا كبيرا؛ إذ تصل نسبة الأمية إلى ٩٠٪ في أوساط النساء و٧٠٪ في أوساط الرجال، ونقص الوعي لدى الشباب جعلهم لا يفكرون إلا بقوت يومهم غير آبهين بالمستقبل، إضافة إلى ارتفاع نسبة التسول في أوساط النساء والأطفال وكبار السن بحثاً عن لقمة العيش، مما يؤدي إلى زيادة حجم الانتهاكات وعمالة لأطفال، وتعرّض الفتيات للتحرش والاغتصاب.

هكذا تعيش فئة المهمشين في أدنى سلم المجتمع اليمني، وتواجه تحديات في مختلف المجالات الحياتية، وذلك بسبب النظرة الدونية التي تصفهم بأنهم ليسوا يمنيين وأنهم ليسوا إلا خدما، لا يجوز الاختلاط بهم، ولا يحق لهم ممارسة حياتهم الخاصة، وهو ما يؤدي إلى مضايقتهم في المدارس والأسواق والأماكن العامة، ومما يزيد الأمر إشكالا أن الغالبية من الطبقة السمراء لا تمتلك البطائق الشخصية أو الانتخابية، وهذه مشكلة رئيسية؛ إذ إن الحصول على البطاقة الشخصية حق واجب للاعتراف بهم كيمنيين.
وأخيراً من المهم إيجاد قرارات سياسية وقوانين محلية والعمل على متابعة تطبيقها تنصّ على دمج المهمشين اجتماعيا وسياساً واقتصاديا، وتمكنهم من نيل حقوقهم والمشاركة ضمن أطر القيادات السياسية داخل الأحزاب، فذلك ما يضمن التعايش الاجتماعي، ويقلّل من التحديات التي تواجه شريحة المهمشين.

ويجب أن يكون للأحزاب السياسية دور أساسي وعادل في حل قضيتهم وإنصافهم وإشراكهم ضمن الأطر القيادية في أوساطها لتساعد على التخفيف من تدهور الوضع المعيشي والاجتماعي، إضافة إلى التعليم الذي يُعد حجر أساس لبناء هذه الشريحة، وليكون لها واقع فعال في معالجة القضايا الاجتماعية، ويجب وضع مبادرات متعددة وقوية تساعد على إيجاد الحلول وإنقاذهم من واقع مرير يتميز بالعنصرية المفروضة عليهم، وتحاول أن تدرج هذه القضايا في جداولها وأولوياتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

مقال يعبر عن رأي الكاتب

المقالة التالية
المُهمّش اليمني وهويته الشخصية.. علاقة معقدة
المقالة السابقة
مرضى الفشل الكلوي.. معاناة في الحصول على لقاح كورونا ومطالبات بإيصاله إلى مراكز الغسيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

مقالات مشابهة :

الأكثر قراءه

━━━━━━━━━

كتابات

━━━━━━━━━