ارتبطت الفنون والآداب بالإنسان على مر العصور بشكل وثيق، وباتت الأعمال الفنية والأغاني اليمنية على وجهٍ خاص تشكل جزءًا مهما من ذاكرة اليمنيين، فقد عبرت الكلمات والمعاني عن سمو المشاعر والمدارك الروحية والمعنوية، وكان الفن اليمني عنصرًا حيويًا وتفاعليًا مع الطبيعة والمحيط والعلاقات الإنسانية والتنوع اللوني والعرقي في المجتمع.
لم يغفل الفن العريق والضارب في أعماق التاريخ، عن إحياء الروح وتوطين القيمة الإنسانية لثقافة التعايش في كينونة الإنسان اليمني، متجاوزًا بذلك الفوارق الاجتماعية والتمييزية التي صنعت فجوة في الروح البشرية، وخلقت الأغاني بكلماتها مزيجًا فنيًا ولونيًا بشريًا، وعزفت مقطوعاتها للأبيض والأسمر من دون استثناء.
“لا عنصرية”
قدّم الفن اليمني الغنائي إبداعات وإسهامات عظيمة ترسّخ ثقافة التعايش وترسي مبادئ السلام بين المجتمع، ولم تقتصر على الدور الترفيهي والطربي، بل أدّى الفن دورًا مهمًا وإيجابيًا في تشكيل الوعي والإدراك لدى الناس وحاول تغيير الصورة النمطية والذهنية السلبية المحيطة ببعض الفئات المجتمعية، مثل فئة “المهمشين” ذوي البشرة السمراء.
لا بد أنه قد تردّدت إلى مسامعك عدد من الأغاني التي ترفض العنصرية وتدعو إلى ثقافة التعايش بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن ذلك أغنية الفنان اليمني أمين حاميم “لا عنصرية” للشاعر عجلان ثابت. قال في مطلعها “لا عنصرية.. لا طائفية.. لا مذهبية”، وأردف “هذا البلد واحد، واحد من زمان”. هكذا ابتدأ أغنيته برفضه للعنصرية، بل عنونها بهذا اللفظ أيضًا، وهي العنصرية التي تواجهها فئة المهمشين في المجتمع، وتكاد تتفرد الفئة بذلك في مسرح هذا التمييز.
يواصل حاميم الغناء مطربا المسامع وموجهًا الرسائل العظيمة “اللي يقول أنتم.. واللي يقول إحنا.. والدم نفس الدم.. حتى ملامحنا”، في هذه الكلمات والمعاني، تجلت أسمى مبادئ وقيم المساواة بين أفراد وفئات المجتمع، وأزاحت الحواجز والفوارق الاجتماعية المتكئة على اللون والعرق والثقافة.
عن إيقاع تلك الأغنية، يقول الكاتب الصحفي سام البحيري، لصوت المهمشين: “هذا هو الدور المناط بالفن وينبغي أن يؤديه، إنه يدعو لقيمة التعايش وتقبّل الآخر”. حملت معاني تلك الكلمات بالألفاظ الصريحة والمعاني المبطنة رسالة مفادها أن الجميع يحملون الدم نفسه والملامح والطبيعة البشرية نفسها، بغض النظر عن الاختلافات اللونية والعرقية والثقافية. وتبقى تلك الاختلافات في إطار النوع الاجتماعي والتنوع الديموغرافي في كل المجتمعات، لكن لا تتنقص الأفراد منهم.
غزل أسمر
على نحو مختلف، هناك نوع آخر من الأغاني التي أوحت برفضها للعنصرية، وأكدت على وحدة وتساوي فئات المجتمع، كوحدة اللحن وتماسك التوزيع الموسيقي في الأغنية على الرغم من اختلاف الآلات الموسيقية وأدوات العزف في تجسيد حقيقي لحال الطبيعة البشرية والنوع الاجتماعي. هذا الصنف من الأغاني تغزّل بالفتيات السُّمر، بألحانٍ موسيقية ووصف جمالي أشعل بهما قلوب المحبين والعشاق وأطرب المسامع.
من نماذج تلك الأغاني غناء فنان اليمن الكبير أيوب طارش في مديح وإطراء الفتاة السمراء “فرشت قلبي لكل أسمر عيونه مرايا”، وأردف “وأدّيت عمري جبا له”، وذلك في أغنية “مطر مطر” للشاعر حسن الشرفي. ومثل ذلك من أغاني اللون اللحجي أغنية “أسمر وعاده زاد كحّل عيونه.. وأبوي أنا لما يلاعب جفونه”، ومثلها أغنية الفنان أحمد فتحي للشاعر عبد العزيز المقالح “المهم أنت يا احوم.. كلنا في الهواء دم.. كلنا أولاد آدم” في أغنية “إن يحرمونا”.
تلك الأغاني والألوان الغنائية الشعبية تساعد بلا شك في تحسين أو تغيير الصورة الذهنية والنمطية المطبقة على فئة المهمشين والنظرة العنصرية التي تلاحقهم نتيجة لون بشرتهم السمراء، وفي هذا الصدد يقول عازف العود الفنان محمد عبد الملك: “إن الأغاني والأهازيج الشعرية البديعة ذات النظرة الجمالية الإيجابية أسهمت بفاعلية والى حدٍ كبير نسبيًا في تحرير تلك الألوان من نير ووطأة الرق الاجتماعي، لا سيما المفروض على ذوي البشرة الملونة”.
ويرى عبد الملك في حديثه لصوت المهمشين أن الفنون الغنائية أفرزت إلى حد ما، ثقافة التفهم والتقبل للتنوع العرقي في ديموغرافية المجتمع اليمني، خصوصًا أن ذوي البشرة السمراء أنفسهم كانوا من ألمع المبدعين والموهوبين، وشكلوا ثقلاً ثقافيًا وإبداعيًا، مثل قوةً ناعمة لا يستهان بها.
وسيلة للتنوير
ينظر البحيري إلى الفن بأنه وسيلة من وسائل التنوير وتشكيل الوعي لدى المجتمع، وبأن دوره لا يقتصر على الترفيه والطرب، وأنه من الممكن للفن أن يكون من الأدوات المهمة لمواجهة التمييز والعنصرية؛ لأنه يصل إلى أكبر شريحة للمجتمع، ولأن المقطوعات الفنية تُردّد بطريقة عفوية، ويُستمع لها بكثرة وباستمرار.
ويضيف البحيري: “عندما تُنتج الأعمال الغنائية والفنية بطريقة إبداعية، وتوجّه عبر وسائل الإعلام، ستشكل وسيلة مهمة لنشر الوعي وترسّخ ثقافة التعايش والقبول بالآخر بين أفراد المجتمع، ومن الممكن أن يحد ذلك من التمييز والعنصرية، وليس بالضرورة مواجهة المجتمع بشكل مباشر.
من جانبه، يؤكد الفنان عبد الملك على الدور التنويري للفنون والأدب والشعر والغناء، معتقدًا أنها أسهمت بإيجابية إلى حدّ كبير في تغيير الوعي الاجتماعي تجاه التنوع اللوني والعرقي، ونافحت بقوة في دحر النظرة العنصرية السلبية التي تلازم الفئة السمراء في المجتمع اليمني.