تُعاود الأمراض المميتة التي تصيب الأطفال الانتشار مجددًا باليمن بحدة وشراسة أكبر مما سبق؛ إذ سُجلت كثير من حالات الإصابة بمرض شلل الأطفال بعد أن كانت اليمن قد خلت منه تمامًا في عام 2009.
قطعت بلدان العالم أشواطًا كبيرة في التقدم العلمي والتكنولوجي، لا سيما في المجال الطبي، وأصبحت قطاعاتها وأنظمتها أكثر قدرة وإمكانية للسيطرة على الأمراض، وأضحت مجتمعاتها شبه خالية منها، في حين ما زالت اليمن تعاني من أمراض الأطفال التي يمكن تجاوزها باللقاحات كما أثبت الطب الحديث.
أين الخلل؟
اجتاح مرضا الحصبة وشلل الأطفال مناطق عدّة على مستوى محافظات البلاد، وسجلت السلطات الصحية لحكومة عدن 468 حالة إصابة بشلل الأطفال منها 16 حالة وفاة، فيما سجلت حكومة صنعاء الخاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) ضعف ذلك العدد وبواقع 826 حالة إصابة، في الثلاث السنوات الأخيرة فقط.
أما بالنسبة لمرض الحصبة، سواء العادية منها أم الألمانية، فقد سجلت وزارة صحة عدن نحو 13 ألفا و388 حالة إصابة و100 حالة وفاة للأطفال، غير أن وزارة صحة حكومة صنعاء لم تفصح عن عدد حالات الإصابة بالحصبة.
تلك الأرقام كبيرة ومخيفة بالنسبة لبلد كان قد خلا تمامًا من الإصابة بهذا النوع من الأمراض، ومنها شلل الأطفال الذي يسبب الإعاقة الدائمة للأطفال في مهدهم وقبل أن يرَوا، ومن الواضح أن هناك ارتفاعا في حالات الإصابة بالمناطق الشمالية التي يسيطر عليها الحوثيون.
عند النظر إلى واقع المشكلة التي أدت إلى ظهور هذا العدد المخيف من حالات الإصابة، تبدو هناك فجوة كبيرة في عمليات تطعيم الأطفال باللقاحات، ويقف خلف تلك الفجوة الناجمة عوامل عدّة، أنتجها الصراع الدائر طوال 8 سنوات في البلاد، بحسب خبراء.
حالت تلك العوامل دون حصول الأطفال على اللقاحات التي تشكل لهم جدار الحماية والدفاع الأول من الإصابة بالأمراض الفتاكة، وتقول منظمة الصحة العالمية في بيانٍ لها، نشر 19 مارس الماضي، إن أكثر من 80% من الأطفال المصابين بالحصبة والشلل هم ممن لم يتلقوا جرعات اللقاح، وأغلبهم من المحافظات الشمالية، أي مناطق الحوثيين.
ضعف القطاع الصحي
لا يمكن إهمال الواقع الصحي الذي تعيشيه البلاد في الوقت الحالي والمشاكل التي يواجهها هذا القطاع جراء الصراع؛ إذ يُعد هذا العامل في طليعة العوامل التي أنتجت الفجوة التي ذكرناها آنفًا في اللقاحات، فأسهم ذلك في زيادة حالات الإصابة بالأمراض المنتشرة.
في سنوات الحرب لحقت القطاع الصحي أضرار عميقة، وتضاءلت فرص المواطنين في الحصول على الرعاية الصحية الكافية سواء العامة منها أم ما يتعلق بتطعيم الأطفال، وتوقفت الخدمات الصحية في كثير من المناطق، وتعرّضت بعض المراكز الصحية تعرضت للدمار، ومنها ما توقف تمامًا عن العمل لوقوعها على خطوط المواجهات.
هذا الأحوال التي وصلت إليها البلاد فرضت على اليمنيين واقعًا مختلفًا، كما يرى مراقبون، فليس مستغربا أن تكون النتيجة عودة الأمراض من جديد؛ إذ هنالك أسر لم تتمكن من تطعيم أطفاله، إما لتوقف المراكز الطبية والوحدات الصحية عن العمل بسبب الحرب، وإما لضعف خدماتها الصحية.
اللجنة الفرعية الإقليمية لاستئصال شلل الأطفال تقول في بيانٍ لها، 28 فبراير الماضي، إن أوضاع الطوارئ المعقدة، ومحدودية الوصول إلى السكان المعرضين للخطر، وضعف خدمات التحصين، والفجوات في تغطية حملات التطعيم التكميلية، أدت إلى ارتفاع حالات الإصابة بأمراض الأطفال في اليمن.
استمرار الصراع
أشارت اللجنة الفرعية في ذلك الجزء المهم من بيانها إلى محدودية الوصول للسكان المعرضين للخطر، وهذا يعدّ وجهًا مختلفًا ومهمًا من أوجه المشكلة التي تواجهها عمليات التطعيم في اليمن، وقد أسهم بشكل كبير في ارتفاع حالات الإصابة بالأمراض بين أوساط الأطفال، فهناك كثير من الأسرة اليمنية في مناطق مختلفة أبرزها محافظة تعز ما زالت تعيش في خطوط المواجهات، فلم تصل إليها حملات التحصين لهذا السبب، إضافةً إلى أن هناك مناطق سكنية شبه معزولة نتيجة قربها للمواجهات أو محاصرتها من طرفي الصراع، فيصعب الوصول إليها.
ومع هذا الواقع المؤلم والمخاوف بشأن مستقبل الأطفال، أصبح توقف الحرب ووصول الخدمات والرعاية الصحية، لجميع السكان بلا استثناء، أمرًا ضروريًا وملحًا، من وجهة نظر إنسانية، وفق مراقبين.
رئيس منظمة أطباء بلا حدود السيد كريستوس كريستو زار مستشفى عَبْس الذي تدعمه المنظمة في محافظة حجة صبيحة يوم 7 مارس الماضي، وتحدث عن الوضع الصحي هناك مع وسائل إعلامية محلية عن تفشي مرض الحصبة في بعض مديريات المحافظة، وقد قال كريستو إنه رأى في زيارته كثيرا من الأطفال المصابين بالحصبة، وأفاد الفريق الطبي العامل هناك أن السبب الرئيسي وراء ارتفاع حالات الإصابة بعدوى الحصبة يعود إلى الفجوة الكبيرة في اللقاحات الروتينية وانخفاض مستوى التطعيم بين الأطفال، لافتًا إلى الحاجة الضرورية لتوسيع نطاق التطعيم بمساعدة أطراف الصراع.
أفكار خاطئة وشائعات
إلى جانب تلك العوامل المصاحبة للواقع المعاش في اليمن والتي طال ضررها الأطفال، لم يسلم اليمنيون أيضًا من الأفكار الخاطئة والشائعات التي انتشرت حول اللقاحات وبثت الخوف بين الأسر بتشكيكها في فعاليتها من وقاية الأطفال من الأمراض وكذلك أمانها.
هذه الشائعات جعلت كثيرا من الأسر تخشى اللقاحات وتعزف عن تطعيم أطفالها، وتقف عائقًا أمام حملات التطعيم الروتينية التي تطلقها السلطات الصحية، كما يقول مدير إدارة التحصين بمحافظة تعز الدكتور فهد النمر.
وبحسب النمر، يمثل رفض الأسر للقاح بسبب الشائعات واعتقادهم أنها ستلحق الضرر بصحة أطفالهم أبرز الصعوبات التي تواجهها الفرق الصحية لحملات التحصين، في حين أنها على العكس تمامًا ستحميهم من الإصابة بالأمراض كالحصبة والشلل.
ويرى النمر أن مواجهة هذا الرفض تكون بتوعية وتثقيف الناس بأهمية اللقاحات والتخلص من الأفكار غير السليمة التي وصلت لهم، وعند الحديث عن هذه النقطة، يتضح أن هناك مشكلة لدى برنامج التثقيف الصحي في وزارة الصحة تتعلق بطريقة وأساليب توعية الناس.
وبخصوص هذا الأمر، يعتقد الصحفي اليمني ومدقق المعلومات مازن فارس أن الأساليب التي يتخذها الإعلام أو التثقيف الصحي في توعية الناس أصبحت غير مجدية ومن الطبيعي أن لا يكون هناك استجابة لها، ويوضح فارس أنه يجب أن تُحدّث الأساليب والطرق المتبعة في عملية التثقيف الصحي، خصوصًا فيما يتعلق باللقاحات، ومن الضروري أن تتماشى هذه الأساليب مع المرحلة الرقمية والتكنولوجية التي نعيشها، فقد أصبح الوصول للمواطن أمرا بسيطا وسريعا بالهواتف الذكية والمنصات الرقمية.
وللأسف أثرت الشائعات المنتشرة على عمليات التطعيم أيضًا ورفض اللقاحات، وبحسب مدير عام مكافحة الأمراض والترصد الوبائي بوزارة صحة عدن، أدهم عوض، يعود ارتفاع عدد الإصابات بمرض الحصبة وشلل الأطفال إلى امتناع الناس أيضًا عن التطعيم الروتيني، وتعود نسبة 91% من حالات الإصابة للأطفال غير المطعمين.
( أُنتجت هذه المادة بدعم من منظمة INTERNEWS ضمن مشروع Rooted in trust Yemen)