يحطّ شبح المجاعة في اليمن بظلاله على أجساد الأطفال المتهالكة، ويلتهم ما تبقى منها، في ظل استمرار الصراع الذي خلّف ظروفًا وأوضاعًا إنسانية واقتصادية في غاية السوء؛ إذ يعاني آلاف الأطفال المصابين من سوء التغذية، مصطدمين بواقعٍ مؤلم لم تشهده البلاد منذ زمنٍ بعيد، بوجود أزمة إنسانية هي الأسوأ في العالم، وفق الأمم المتحدة. وتقدر المنظمة الأممية للطفولة “اليونيسف” عدد الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد في اليمن بنحو 2,2 مليون حالة بينهم نحو 540 ألف طفلاً مصابًا بسوء التغذية الحاد “الوخيم”.
أجساد متهالكة
عند دخولك إلى غُرف الرقود في قسم سوء التغذية بالمستشفى اليمني السويدي الخاص بالأمومة والطفولة في محافظة تعز، يقع نظرك على عشرات الأطفال الذين يستلقون في زوايا الأسرّة بأجسادٍ متهالكة لم يتبقَ منها سوى العظام وقليل من الجسم.
يرقد في أحد الأسرّة الطفل آدم سالم16 يومًا في قسم، بجسدٍ لا يتعدى وزنه 5 كيلوغرام، بعد 8 أشهر من الحياة، وبجانبه والدته تضع يدها على خدها وتعتريها ملامح التعب والإنهاك والسهر. دخل آدم قسم الرقود – حالات سوء التغذية الحاد الوخيم قبل نصف شهر من الآن بعد أن أتى به والده ووالدته إلى المستشفى وهو في حالة سيئة للغاية، قادمين من مديرية موزع بريف محافظة تعز الغربي.
يقول الأطباء المناوبون في قسم الرقود لصوت المهمشين إن الطفل آدم وصل إلى القسم وهو ينازع وصحته منهارة، كادت المضاعفات الصحية لسوء التغذية تفتك به لو لم يسارع والداه بإنقاذه في اللحظات الأخيرة.
وبحسب الأطباء، كان الطفل عندما وصل يعاني من إسهال شديد وتقرحات في الفم وأجزاء من الجسم ما زالت مستمرة حتى الآن، ولديه سوء تغذية حاد وخيم يعاني منه منذ لحظة ولادته، لتسوء حالته أكثر بعدها؛ لأنه لم يتلقَ الرعاية الصحية الفورية.
يعاني آدم من سوء التغذية الحاد الوخيم منذ أن رأت عيناه النور ولم يتمكن والداه من إسعافه إلى المستشفى الخاص بالطفولة، لبعده عنهم؛ إذ يقع في أقصى المحافظة، وكذلك بسبب عدم قدرتهم على دفع تكاليف العلاج، كما تقول والدة آدم. وتضيف في حديثها، لصوت المهمشين أن ظروفهم المادية صعبة، وليس هناك مستشفى أو مركز صحي قريب للقرية التي يسكنونها لكي يقوموا بإسعافه، لكن عندما ساءت حالته اضطروا إلى نقله إلى مستشفى الأمومة والطفولة بعد أن قطعوا عشرات الكيلو مترات.
ويوجد في محافظة تعز ذات الكثافة السكانية العالية قسمان فقط متخصصان بعلاج سوء التغذية يقعان وسط المدينة، الأول في المستشفى اليمن السويدي حيث يرقد الطفل آدم، والآخر في مستشفى المظفر.
سوء تغذية حاد وخيم
يستقبل قسم الرقود الخاص بسوء التغذية في مستشفى اليمن السويدي، من 20 إلى 25 حالة سوء حاد وخيم في التغذية شهريًا، توضع تحت الرعاية الطبية المباشرة إلى أن تتعافى، كما يقول رئيس قسم التأهيل الغذائي الدكتور أحمد راجح.
ويضيف راجح لصوت المهمشين أنهم يستقبلون أيضًا نحو 30 حالة أخرى مصابة بسوء التغذية تتردد على القسم شهريًا للمعاينة الطبية ومتابعة حالات الأطفال الذين يكون لديهم سوء تغذية حاد أو متوسط، لاستكمال علاجهم.
ويوضح راجح بأن مستوى الإصابة لدى الطفل يُشخّص بالوزن والطول والعمر، فالأطفال الذين يكون وزنهم أقل من 7 كيلو غرام يُعدّ سوء التغذية لديهم حادا وخيما، ومن 7-9 يكون متوسطا، أما أكثر من 9 كيلوغرام فيُعدّ طبيعيا، بمعنى أنه ليس مصابًا.
ويشير راجح إلى أن انعدام الأمن الغذائي وعدم تناول الأم للأغذية المناسبة وبمستويات جيدة سواء أثناء الحمل أم رضاعة الطفل، يُعدّ من أبرز أسباب إصابة الطفل بسوء التغذية بمرحلة معينة تبدأ من متوسط إلى حادّ إلى وخيم.
ووفق راجح، تُعدّ إصابة الطفل بأمراض مزمنة منذ مرحلة ولادته وما بعدها قد يعرضه لسوء التغذية مع فقدانه للشهية وعدم تلقيه الغذاء من حليب الأم، إضافةً إلى إصابته بالإسهالات المائية، وكل ذلك يعزز من احتمالية إصابته بسوء التغذية.
مساعٍ تعيقها شائعات
نتيجةً لارتفاع معدلات سوء التغذية بين الأطفال في البلاد، أطلق برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة مشروع التغذية المدرسية باليمن في نهاية فبراير من عام 2022، يُوزّع فيه بسكويت مُدعم بالفيتامينات والمعادن مكمّلا غذائيا للأطفال لتجنب إصابتهم بسوء التغذية الحاد.
لكن مساعي البرنامج الأممي واجهتها شائعة انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة الفورية في منتصف نوفمبر الماضي، تقول إن البسكويت يحتوي على مادة تتلاعب بجينات الأطفال وتعمل على التلاعب بميوله الجنسي ويخلق لديه ميولات منافية للأخلاق والآداب العامة، وجرى تداولها وتحذير الناس من تغذية أطفالهم بالبسكويت.
لكن منصة “صدق” اليمنية، وهي منصة رقمية تتحقق من الشائعات والمحتوى المضلل، تؤكد بأن تلك الشائعة ليست صحيحة وأن التحذير الذي تضمنها “زائف” ولم يصدر عن أي جهةٍ رسمية أو حكومية. وتشير المنصة إلى أن برنامج الغذاء يعمل على توزيع البسكويت نفسه في عدة دول غير اليمن ولم يُبلّغ عن أي حالة صحية جنسية بعد تناوله، غير أنها لفتت إلى أن الشائعة قد انتشرت سابقًا بدول غير اليمن ولم يثبت صحتها أيضًا.
عوامل يتربعها الفقر
كان للصراع الذي يدور في البلاد منذ ثمانية أعوام نتائج كارثية على جميع المستويات والأصعدة، فقد نال من قدرة المواطن اليمني في توفير لقمة العيش وتضاءلت فرص الحصول على الغذاء مع ارتفاع معدلات البطالة وانهيار الاقتصاد.
وبحسب تقرير لمنظمة “أطباء بلا حدود” الدولية، نشرته في منتصف ديسمبر الماضي، استعرضت فيه العوامل الرئيسية التي تقف وراء إصابة الأطفال بسوء التغذية الحاد والوخيم وأسهمت في ارتفاع معدلاته بسنوات الحرب الأخيرة، وقد تراجعت قدرة معظم العائلات اليمنية على تحمل تكاليف الطعام وشراء كميات كافية منه، بسبب الفقر والارتفاع الحاد في أسعار المنتجات الغذائية، نتيجة تفاقم الأزمة الاقتصادية، ما أدى إلى إصابة الأطفال بسوء التغذية.
وتشير المنظمة إلى أن هناك صعوبة في وصول المواطنين إلى خدمات الرعاية الصحية الأولية مع انهيار القطاع الصحي بالبلاد ومحدودية موارد السلطات الصحية ونقص الإمدادات والتجهيزات وإغلاق كثير من المرافق الصحية.
وجاء في تقرير أطباء بلا حدود أن غياب التوعية الصحية المجتمعية كان عاملا مساعدًا في ارتفاع معدلات الإصابة بسوء التغذية، وعدم وعي الأمهات بالرعاية الصحية لأطفالهنّ أثناء الحمل والولادة وما بعدها، ولد حالات حمل معقدة ويصيب الأطفال بسوء التغذية الحاد والوخيم.
وفي العام الماضي تذكر المنظمة أن فرقها الصحية الميدانية وجدت أكثر من 50% من الأمهات الحوامل في قسم الولادة بمستشفى عَبْس في محافظة حجّة شمال غربي البلاد يعانين من سوء التغذية، الأمر الذي يشكل خطرًا على أطفالهنّ.
الموت المحتوم
يتعرّض الأطفال المصابون بسوء التغذية الحاد والوخيم لمضاعفات صحية شديدة يصعب مقاومتها وتسبب لهم الإسهالات والتقرحات وفقدان شهية والآلام، خصوصًا عند تأخرهم على الرعاية الصحية، ليكون الموت مصيرهم المحتوم.
يقول راجح إن معظم الأسر تتأخر في إنقاذ ونقل أطفالها للمستشفيات بشكل مبكر، لا سيما حديثو الولادة لتلقي العلاج والرعاية الصحية والغذائية، ربما لظروف معينة تكون غالبًا مادية، ما يعرض الطفل لخطورة الوفاة، مشيرًا إلى أن هناك أطفال يصلون إلى المستشفى وحالتهم الصحية منتهية تمامًا.
ووفقا لتقرير منظمة أطباء بلا حدود، توفي في العام الماضي 31 طفلاً مصابًا بسوء التغذية في مستشفى السلام بمحافظة عمران، بعد دخولهم المستشفى، كان أغلبهم يعانون من مضاعفات طبيّة شديدة لا يمكن معالجتها، نظرًا لوصولهم إلى المستشفى في مرحلة متأخرة.
من جانبه، يؤكد بيان لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، نُشر في سبتمبر الماضي أن أكثر من 500 ألف طفل يمني يواجهون سوء التغذية الحاد، بما في ذلك 60 ألف طفل يعانون من مضاعفات طبية وهم معرضون لخطر الموت.
نظام غذائي
على الرغم من الأسباب والعوامل التي وقفت وراء ارتفاع معدلات الأطفال بسوء التغذية في اليمن، يبقى هناك جانب آخر يتمثل في تدنّي الوعي الصحي والغذائي لدى كثير من الأمهات التي تهمل النظام الغذائي لديها وتعرض الجنين أو الوليد للإصابة بسوء التغذية.
وفي هذا الخصوص، يقول مستشار التغذية العلاجية الدكتور عبد القوي المخلافي إن هناك نظاما غذائيا يفترض أن تلتزم به الأم الحامل لكي تحصل على البروتينات والكربوهيدرات والفيتامينات التي يحتاجها جسمها لكي ينمو الطفل بمناعة جيّدة.
ويمكن الحصول على تلك المكونات بشكل يومي من اللحوم والحبوب المختلفة والحليب والخضروات والفواكه الطازجة، والمداومة على تناول أجزاء منها لتمد الطاقة لجسم الأم الحامل وطفلها، بحسب المخلافي.
ويضيف في حديثه لصوت المهمشين أن هذا النظام يبدأ في الشهر السابع من الحمل؛ لأن الطفل يبدأ في الحركة ويصبح أكثر احتياجًا للطاقة، وبالتالي يتكون جهازه المناعي، وغذاء الأم هنا يحدّد طبيعة نموه ومدى اكتسابه القدرة على مواجهة الأمراض.
وبالنسبة للأطفال حديثي الولادة، يؤكّد المخلافي على ضرورة تلقي الطفل للرضاعة الطبيعية من حليب الأم فقط خلال الستة الأشهر الأولى، ومن بعدها يمكن القيام بالتغذية التكميلية بحسب نظام معين يرافق الرضاعة الطبيعية، مشيرًا إلى أن أكثر الأطفال عرضة للإصابة بسوء التغذية هم أولئك الذين لم يتلقوا الرضاعة الطبيعية بشكل كافٍ.
( أنتجت هذه المادة بدعم من منظمة “lnternews” ضمن مشروع “Rooted in trust” في اليمن)