دلالة اللون في رواية “طعم أسود رائحة سوداء” للروائي اليمني علي المقري

تبقى رواية “طعم أسود رائحة سوداء” للروائي اليمني علي المقري من أشهر ما كُتب حول حياة المهمشين في اليمن، فبعدد صفحاتها التي لا تتجاوز الـ120 صفحة سردَ المقري تاريخ ومعاناة هذه الفئة، بلغةٍ وصفها الكاتب الروائي الغربي عمران بالرشاقة، ووصفها فقهاء الدين كالإمام محمد العديني بالفاضحة.

قال فيها الغربي عمران: “الرواية عرّت المفاهيم الدينية في تكريس العنصرية بين الأجناس البشرية”. وأضاف بأن “الكاتب أبدع بغوصه في أعماق وعي المجتمع بروح إنسانية، وهي رواية واقعية لفضح عقائد التخلّف”. بينما قال عنها إمام جامع الجند محمد العديني: “لغة بذيئة ولا ترقى إلى مستوى الأدب الذي يهذب النفوس، غريزية بالدرجة الأولى، وقد أساءت لحقبة وفئة ومجتمع يمني محافظ بكل فئاته”.

صدرت الرواية عن دار الساقي للنشر والتوزيع، وتقع أحداث الرواية في 6 فصول ما بين عامي 1976 و1982 قبيل توحيد اليمن، وهذه الفترة كانت غنية بالتداعيات التي أدّت فيما بعدها بـ8 سنوات إلى إعلان قيام الوحدة اليمنية.

تدور أحداث الرواية حول الشاب اليافع “عبد الرحمن” من نسل عائلة رفيعة الشأن، الذي أخطأ مع شابة تكبره من فئة “المزيّنين” الذين يعملون في التجميل، واسمها “جمالة”، فحكمَ سكان القرية عليها بالرجم حتى الموت بعد جدلٍ اتفق فيه على أنها زانية، فيما لم يُوجِّه أي اتهام لعبد الرحمن، باعتبارها أكبر منه سنًا، ومن طبقة اجتماعية مهملة، ومفتقرة للظهر والسند.

تستمر الأحداث ليكبر عبد الرحمن عامًا آخر، ويهرب مع أخت “جمالة” واسمها “الدغلو” بعد خطأ آخر أفضى لقصة حب عرف الاثنان مصيره، فانطلقا من قرية الوادي نحو مدينة تعز ليأويهما “محوى” زين، وهو تجمّع سكاني لفئة المهمشين مكوّن من خيام مستورة بالصفائح والكراتين والأحجار في منطقة “عُصيفرة” بتعز، فتبدأ هناك تسميته الجديدة باسم “امبو” الذي يطلقه المهمشون -بحسب مؤلف الرواية- على أي مواطن أبيض، وعلى المدينة بشكل عام.

وفي محوى زين تجلّت في الرواية مشاعر الحب الذي يتجاوز حدود التفرقة، والعصبية، فتظهر شخوص الرواية لتثار عشرات ‏الأسئلة عن الوطن والهوية والتاريخ.

لماذا لا يجد رباش سوى الخيانة، خيانة كل شيء: الدين والوطن ‏والتاريخ؟ فيما سرور، الذي يرفض الدمج في المجتمع، ظل يهمّش بني فئته طويلاً، ويقترح أن يحنّط ‏نموذجاً منهم في المتحف، قبيل انقراض البقية!

وعلى ما يبدو فقد بحث الراوي جيدًا عن تاريخ فئة المهمشين من جهة النسب والمصدر والهوية والأسلوب واللغة وثقافة العيش، فالقارئ لا يشك لوهلة بأن البطل مهمش أو تربى في أوساطهم.

وتذكر الرواية بأن المهمشين هي مجموعة عرقية من السود في الأغلب كفئة محرومة، تعيش بصورة محزنة وتعيسة تثير التقزز. وقد اختُلف باليمن في أصل هذه الفئة، ويقال إنهم خليط من الأحباش والهنود وفقراء العرب والعبيد، وتصنف على أنها أدنى مستويات المجتمع اليمني المعروف بطبقيته الشديدة، وتزمته المقيت بشأن الأحساب والأنساب.

يقول الكاتب على لسان سرور أحد أبطال الرواية عن فئته: “نحن لسنا عبيدا، العبيد أفضل منا بكثير، فهم أعلى منا بدرجة. فوق العبيد هناك اليهود، وفوق اليهود أبناء الخمس، الدواشنة من المدّاحين والمزيّنين الحلّاقين والحجّامين والحمّامين والخدّام في الحمامات والدبّاغين والمقهويين والمقوّتين، فوقهم القبائل، فوق القبائل المشايخ والقضاة ثم السادة …”.

عاشت هذه الطبقة وما زالت تعيش في عشوائيات وعُشش (جمع عُشّة) من الكرتون والصفيح على هامش المدن، وهي محرومة من أبسط مقومات العيش الإنساني؛ فلا تعليم ولا صحة ولا ماء نظيف ولا كهرباء، حياة مريرة بكل المقاييس. يعمل معظم هؤلاء في الأعمال التي تعدّ دونية في المجتمع اليمني، مثل تنظيف الشوارع والخدمة في البيوت؛ إذ إنهم محرومون من الوظائف الحكومية أو الالتحاق بالجيش، هذه الصورة مرسومة بدقة وكأننا أمام فيلم سينمائي مرشح لجائزة الأوسكار، وبالفعل فقد تأهلت هذه الرواية إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2009.

يقول الراوي بلسان الشخصية الرئيسة “أمبو”: “بدأت سنة ‏حزينة، كان الشتاء كعادته مليئاً بأخبار موت الأطفال المفزعة. الصيف جاء أيضاً ومعه البلهارسيا والملاريا”‏.

وفي سياق آخر بالرواية يضيف بأنهم لم يكونوا في العشش يرهبون الموت حين يعلمون موت رجل أو امرأة بلغا الثلاثين أو أقل من ذلك ببضع ‏سنوات. يعتقدون أنها كافية لعمر المهمش، وذلك أفضل له من بقائه يتعذب من الأمراض التي تهاجمه طوال ‏عمره، وتصبح صعبة الاحتمال بعد الخامسة والعشرين وأصعب بعد الثلاثين.

والجدير بالذكر أن الرواية أظهرت بعض الأحداث المتمرّدة من زواج المهندس الزراعي بمهمشة ليعيش معها في خيمة من الصفيح قبل أن تقتلهما الأمراض بعد عدة أشهر من زواجهما، كذلك الطبيب الذي أحبّ الشابة المهمشة “جمعة” فتزوجها بعد أن عمل جاهدًا على مساعدة المهمشين وإنقاذ أطفالهم من الموت المحقق، وما زالت جملته حاضرة في ذهني بقوله أثناء زفته للمهمش الناقم سرور: “هذه ليلة سوداء حلوة. ما رأيك ياسرور؟”، فيما لم يتمكن سرور من مقاومة روح التسامح الذي أبداها الطبيب، وهي التي أذابت مشاعر الكراهية تجاه ذوي البشرة البيضاء عقب أحقابٍ من تهميشهم، فرد سرور وكرر جملته مرتين: “هذه ليلة حلوة سوداء وبيضاء”.

ومن هنا، انتقد الكاتب دلالة السواد الذي ربطه المجتمع بالظلام والبؤس والجهل والحزن، وكذلك ارتباط الأبيض بنقيضه كأسلوب جارح من أساليب إقصاء ذوي البشرة السوداء، لكنه ينظر للأسود نظرة فريدة باستطعامه وتذوّقه وشمه لدرجة إدمانه وحبه لهذه الفئة التي صور العيش وسطهم كفرد منهم مع زوجته “الدغلو” يتقاسمون الهموم والأمنيات، ومن هذه الفكرة استنبط الروائي اسم الرواية “طعم أسود.. رائحة سوداء”.

ذكرت الرواية استغلال الأحزاب لقضية المهمشين سياسيا، فيذكر المقري في أحد أقسام ‏الرواية كيف أن بعض الناشطين في الأحزاب يأتون إلى محوى زين ليهربوا من الشرطة أو ‏يدعونهم إلى معتقداتهم، ودائما ما كانت الشرطة تهجم لتمشط المحوى وترهبهم.

وفي النهاية يفقد هؤلاء المهمشون ‏الأرض التي بها عُششهم البسيطة عبر زحف المباني الأسمنتية؛ إذ يصوّر الروائي المشهد بقوله: “زحف البيوت الإسمنتية نحو العشش يزيد من قلقنا. جرافات كثيرة سبقتها. لم يكونوا يستأذنون أحدا من ‏الأخدام في هدم عششهم ومسح الأرض؛ لتكون صالحة للبناء. قالوا إن تجاراً كباراً اشتروا الأرض من ‏أصحابها الذين لم يعرفهم أحد‎…‎‏”‏.

ورغم استخدام الروائي للغة الفاضحة البذيئة بعيدًا عن التوريات، فللواقع منها النصيب الأكبر، كما لم تسلم الرواية من شطحات خيال المؤلف الذي أولى الغريزة اهتمامه الأكبر؛ إذ صوّر المهمشين مجتمعا لا يحدّه حد، ولا يحكمه أي وازع في سبيل إشباع شهواته، كما أظهر الزوج المهمش بصورة رجل عديم الغيرة والمسؤولية تجاه زوجته التي بإمكانها أن تقضي وطرها مع أيٍّ كان، لا سيما في تصويره الدقيق للعبة الكيس لمن قرأ الرواية.

قد يبدو -من غير العادل- محاكمة الخيال الروائي بمحكمة الصحفي، ولهذا السبب فأنا كقارئة من الطراز الأول أبدي إعجابي بتماسك أحداث الرواية، وسلاسة السرد وجاذبيته، كما أن للجرأة فوائدها أيضًا كأسرع طريق للتغيير عبر أسلوب الصدمة، وبالفعل كانت الرواية صادمة لكل من قرأها من غير هذه الفئة.

وتظل هذه الرواية -وإن أساءت بعض الشيء للمهمشين- على حد قول بعض منهم، خادمة لقضيتهم العادلة بكل جلاء حسب ما يتفق عليه أغلبيتهم العظمى.

المقالة التالية
المهمشون.. زيادة في الإنجاب في ظل غياب الوعي بتنظيم الأسرة
المقالة السابقة
المرأة المهمشة… خارج دائرة الوعي بتنظيم الأسرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

مقالات مشابهة :

الأكثر قراءه

━━━━━━━━━

كتابات

━━━━━━━━━