في عصر جمعةٍ من يناير 1971، والشمس تميل للغروب، سمعَ الحاج عبد الرحيم محمد بكاءً ضعيفًا لطفلٍ رضيعٍ، وضع المحراث جانبًا؛ ليبدأ البحث عن مصدر الصوت بين الأشجار في سائلة وادي ذي السفال بمحافظة إب. يجد عبد الرحيم رضيعًا ملفوفًا بخرقةٍ بالية، يبدو أن عمره بالأشهر؛ طفلًا أسود البشرة، بريء التقاسيم؛ يلتقطه عبد الرحيم على الفور، ويتجه نحو منزله المكتظ بأربعة أولادٍ وست بنات كلهم أطفال.
تقبلُ زوجة عبد الرحيم الطفل، وتشعر نحوه بشفقةٍ تفوق مشاعر الأمومة؛ لتقول لزوجها رغم ثقل مسؤوليتها: “لنتخذه ولدًا، عسى أن ينفعنا”.
طفولته
سمّى عبدالرحيم طفلَه مجبور؛ لأنه كان وحيدًا حين وجده مرميًا بين الشجر، عسى أن يجبر الله خاطره وخاطر الطفل في كبره. اتجه عبدالرحيم في اليوم التالي لأداء اللقاح لابنه في أقرب مركز صحيّ بمدينة القاعدة وإثبات نسبة الطفل إليه، وقد قدّرت الأم عمره تقديرا. بعدها أعلن لسكان قريته أن هذا الطفل منه وله، يحظى بجميع حقوق إخوانه وأخواته، وعليه واجباتهم في حياته ووفاته.
قضى مجبور طفولته، وكان خلالها -على الأغلب- يعود إلى أمه باكيًا بسبب تنمر أطفال القرية عليه. كانوا يجتمعون للتصفيق حوله والصراخ بصوتٍ واحد يرددون عبارات من قبيل: “مجبور الخادم، مجبور الأسود، مجبور الفحمة”، وكان الأب عبدالرحيم رجلًا وقورًا ذا مكانة وهيبة، ولقوة شخصيته وهيبته أمام أولياء الأمور توقفت مواقف التنمر أمام ابنه مجبور، ليكبر بسلامٍ نسبي في قريته.
مراهقته
يعمل مجبور مع والده في الحقل كأي شاب بالقرية، وأصبح جزء من المجتمع، ولديه أصدقاء والجميع يشيد بأخلاقه، لكن لم يقبل به زوجا لابنته. تبحث الأم بجهدٍ عن عروسٍ لابنها، لكنها تُفاجأ بالرفض باعتباره لقيطا أسود غير معروف الأصل. وكلما تقدمت لطلب يد فتاةٍ لولدها، تجيبها إحدى نساء العائلة بأن لهم الشرف لأي ولدٍ لها غير مجبور.
اغترب مجبور في سلطنة عُمان لعشر سنوات، ثم عاد نحو قريته ذا وجاهة ومال. بنى منزلًا كبيرًا بالقرية المجاورة لمنزل والده، بعد أن وهبه والده قطعة أرضٍ، فأقام عليها منزلًا من أجمل منازل تلك القرية. وافقت بعد ذلك فتاة جميلة بيضاء على الزواج منه نظرًا لمستقبلها المضمون معه. تزوجها مجبور وأنجبا أربعة أبناء.
أطفاله
يكبر أولاد مجبور وأمامهم مهمة صعبة هي إثبات الذات لأقرانهم، فبعدما سمعت البنت الكبرى “سمية” زميلة لها تناديها بـ”بنت الأسود” في إحدى فترات الراحة المدرسية بدأت في التعارك معها فورًا، وكان الوالد غالبا ما يذهب للإدارة المدرسية بسبب عراك أبنائه مع زملائهم.
يقول مجبور عبدالرحيم لصوت المهمشين: “واجهتُ سابقًا تنمرا من بعض أفراد المجتمع، لكنني تصالحتُ مع وضعي ولوني، وعشتُ بسلام، وحاليًا أرجو أن يتقبل أبنائي وضعهم مثلي”.
ويضيف:” لم تكن مشكلة أفراد المجتمع سوى لوني الأسود، وصفة لقيط. كنت أسمع العبارتين بشكلٍ يومي وأتمنى الموت على حياةٍ بمذلّة”.
تقول سمية مجبور (طالبة إدارة أعمال، 22 عامًا): “لم أكن هادئة أمام تطاولات من حولي، ولن أكون. أحاول فقط أن أشرح لهم بكفي أن الاختلاف ثراء، وكيف يجب أن يحترموا البقية؛ لأني مع الأسف أعيش في مجتمع لا يحترم الضعيف اللطيف، ويضرب للأقوياء ألف حساب، وقد لمستُ ذلك بالتجربة”.
مع ذلك فإن سمية تشيد بمعظم زميلاتها اللاتي تعتبرهنّ أكثر من أخوات، وتؤكد حسن تعاملهن وعدم تمييزهنّ العنصري أو اللوني ضدها إطلاقًا، كما تشكرهن لمواقفهن اللاتي لا تنسى بالنسبة لها.
ظهور أسرة جديدة
لم يصدق مجبور عينيه بعد أن بلغ قرابة الخمسين عامًا. سيدتان مهمشتان تطرقان باب منزله، ترتميان بين أحضانه فجأةً لتشرحا له أنهنّ أختاه. تقول إحدى الأختين: “كانت أمنا تعاني من زهايمر متقدّم، وعلى فراش موتها أخبرتنا أن لنا أخا طرحته أرضًا في مكان كذا وكذا بيوم كذا، ثم رحلت بسبب مرضٍ ذهني أصابها”.
توفيت الأم الحقيقية لتبدأ الأخت الكبيرة بالتقصي والبحث، وبعد أن وصلت من وادي بنا شمال شرق ذي السفال إلى المكان الذي حدّدتهُ والدتها قبل الوفاة، سألت معظم الناس هناك.
في ذلك اليوم، كان قد مضى عامان على وفاة عبدالرحيم محمد -الرجل الذي تبنى مجبور- لكنّ سكانا محليين دلّوا الأختين على منزل أخيهنّ. بعد صدمة مريرة أصابت مجبور وأسرته، تقبل أختيه. حاولتا إغراءه بالمال والأراضي الزراعية التي يملكن منها الكثير، لكنه لم يعترف بهنّ رسميًا، ورفض العودة معهنّ نحو “وادي بنا”؛ إذ أصبحت جزء من المجتمع وحياته كلها في وادي “ذي السفال”، ووالداه لم يقصرا معه بشيءٍ، وكذلك إخوته.