يعمل “محمد الشعيبي” (52 عاماً) إسكافيا بجانب أحد الأكشاك وسط مدينة تعز منذ ثلاثين عاما لإعالة أسرته وتعليم أطفاله، ورغم محاولاته الكثيرة في البحث عن عمل آخر من أجل الحصول على عائد مادي أفضل، كان ذلك البحث من دون جدوى، لذا استمر في مهنته بكل قساوتها اليومية.
بمظلة ممزقة لا تحميه من أشعة الشمس الحارقة، ولا تصدّ عنه قطرات المطر يعمل “الشعيبي” وبجانبه قطته الملازمة له في مفرشة الواقع على رصيف الشارع، حيث تربطه علاقة مميزة بزبائنه لأسلوبه المميز في تعامله مع الآخرين.
رغم العائد المادي الذي لا يكفي لتوفير متطلبات الحياة، يعمل كثير من المواطنين اليمنيين -ومن ضمنهم الشعيبي- بإصرار على الدفع بأبنائهم نحو التعليم، رغم التكاليف الباهظة التي تواجههم من أجل ذلك، وخاصة التعليم الجامعي.
يقول الشعيبي: “أعمل في مهنتي منذ ثلاثين عاما، وأحصل على مبلغ بسيط في اليوم ما بين 2000 إلى 3000 ريال فقط، وهو مبلغ لا يغطي نفقة التعليم وبقية المصاريف”، وأضاف في حديث لـصوت المهمشين: “أنا مهتم بتعليم أبنائي، واستطعت أن أساعد ابنتي على إكمال تعليمها الجامعي في جامعة تعز رغم كثير من المعوقات المادية التي واجهتني”.
أهمية المهنة
يعمل نسبة كبيرة من المهمشين في اليمن في “السِّكافة” (على وزن كِتابة) أو ما يعرف في غالبية محافظات الجمهورية بـ”الخِرازة”، وتُعدّ من المهن التاريخية ذات الموروث الثقافي المتميز، ويطلق على أصحاب المهنة محليّا مصطلح “الخرازين”، وتدخل ضمن الحرف اليدوية باليمن، وقد تنوقلت المهنة جيلا بعد جيلا، ويصل عدد أصحابها في محافظة تعز إلى 525 عاملا، بحسب مصدر في جمعية الخرازين. يتوزعون بين شوارع المدينة ومراكز المديريات الريفية، بالإضافة إلى المتجولين في الحواري والمناطق الريفية البعيدة عن الأسواق.
تقدّم مهنة “السكافة” للمجتمع خدمة قيّمة، وذلك بإعادة إصلاح الأحذية وترميمها، فمع الحرب وتدهور الأوضاع المعيشية يضطر كثير من الناس إلى خياطة أحذيتهم مرات عديدة للاحتفاظ بها، ومن أجل الاحتفاظ بالأحذية لأطول فترة ممكنة أيضا، يعمل كثير من الناس على خياطتها بعد شرائها مباشرة من أجل ضمان عدم تمزقها سريعا، وهي من ضمن الاحتياطات التي يعتمدها الناس لتقليل تكلفة الإنفاق الباهظة على شراء الأحذية المستمر، هذا فضلا عما تقدمه هذه المهنة من تنظيف للأحذية لتُظهر صاحبها بمظهر لائق.
نظرة المجتمع
نتيجة لترسُّخ الطبقية في المجتمع، يُنظر إلى مهنة “السِّكافة” بدونية من قبل بعض الناس؛ لأنها من المهن التي امهتنها السود غالبا، بعد أن كانت حكرا على اليهود الذين هاجروا اليمن إلى بلدان أخرى قديما. عقب تلك الهجرة، رسخت الإمامة التي حكمت اليمن لمئات السنين تلك المفاهيم، من أجل إبراز ما يطلق عليهم في اليمن بالسادة أو الهاشميين الذين يعتقدون أنهم امتداد لآل بيت الرسول، وقد عملوا على تقسيم المجتمع مهنيا، لضمان بقائهم طبقةً عُليا حاكمة، وكان ذلك قبل اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962.
يقول عبد الله محمد سيف مشعل (22سنة): “عملتُ في هذه المهنة منذ أن كان عمري ثلاثة عشر سنة مع والدي المرحوم، وما زلت أعمل فيها لكي أعول أسرتي ونعيش بكرامة”، وأضاف في حديث لصوت المهمشين: “أتمنى أن أعمل في التجارة بشكل جزئي على الأقل، مثل أن أحصل على بضاعة من تجار الجملة لكي أعيد بيعها وأستطيع بذلك تحسين دخلي اليومي”.
من جانبه قال رئيس جمعية الخرازين الاجتماعية الحرفية سامي محمد فرحان: “نعمل تحت حرارة الشمس، ولا تسمح لنا السلطات المحلية (البلدية) باتخاذ المظلات، ومن أجل الرقي بالمهنة وتطويرها، نحتاج لأدوات حديثة مثل مكائن ومواد خام وأكشاك”.
وهناك ممارسات من السلطات المتعاقبة ضد الخرّازين، تتمثل في عدم مساعدتهم لتنظيم مهنتهم وإعطائها خيارات تتيح لها تطوير مهنتهم بشكل أكثر، وغياب تقديم مساعدات تتيح لهم الارتقاء بمهنتهم، وتتطلب هذه المهنة دورات تأهيلية وتمكينا مهنيا للعاملين لتصبح مدرة للدخل، وتجعل أصحابها قادرين على تعليم أطفالهم والسكن في منازل بدلا عن الخيم والعشش الكرتونية، والحياة القاسية التي يعيشونها في معظم المحافظات اليمنية.
وفي ظل الحرب، يعيش كثير من أصحاب المهن معاناة كبيرة، ومن ضمنهم المهمشون الذين يعملون في مهنة “السكافة”؛ إذ تسبب غلاء المعيشية في وصول كثير منهم إلى المجاعة، وكانوا هم الشريحة الأكبر تعرضا لذلك بعد انعدام دخلهم المادي الضئيل.