أدى الصراع باليمن في الأعوام الماضية إلى ضعف دور الجهات الرقابية، مما سبب تزايد تهريب وإدخال المبيدات المحظورة وغير المرخصة بشكل كبير؛ إذ يسعى كثير من المزارعين لشرائها نظراً لأسعارها المنخفضة مقارنة بالمبيدات الأصلية. وفي الأشهر القليلة الماضية، تداول كثير من الناس في وسائل التواصل الاجتماعي وعدد من المواقع الإخبارية أخبارا عن دخول مبيدات زراعية مسرطِنة، وبتواطؤ نافذين في حكومة صنعاء.
وذكر ناشطون أن هذا التواطؤ والتسهيل المتعمد لإدخال مبيدات سامة ومحظورة، أسهم بشكل مباشر في تفشي الوباء، وفقدان السيطرة عليه في كثير من المحافظات التي تقع تحت سلطة حكومة الإنقاذ الوطني بصنعاء. وقالت مصادر عاملة في القطاع الصحي بصنعاء: “هناك انتشار وتزايد في حالات الإصابة بمرض السرطان، والسبب هو مبيدات وأسمدة زراعية مسرطنة دخلت إلى البلد في الآونة الأخيرة، وقد تسببت هذه المبيدات بظهور أنواع مختلفة من الأمراض السرطانية، وتشوّهات خلقية لدى الأجنّة والمواليد.
دفع انتشارُ الأمراض السرطانية وعدم قدرة السلطات الصحية على السيطرة على الوضع مجلسَ النواب في حكومة الإنقاذ إلى التدخل، فقد عقد جلسة برلمانية في 6 شباط / فبراير 2023 طالب فيها وزارة الصحة بسرعة إعداد خارطة مرض السرطان (خارطة توضح موقع الإصابات بالمرض وأنواعه وزمن الإصابة وأسباب الانتشار)، وذلك بهدف منع انتشار المرض.
سوق مفتوح ورقابة هزيلة
حذّر مدير مكتب الزراعة بمحافظة ذَمار هلال الجشاري في تصريح لموقع العربي الجديد من وجود أكثر من 700 نوع من المبيدات والأسمدة الكيميائية في الأسواق اليمنية، معظمها محظور دولياً لطبيعتها التدميرية على الأراضي الزراعية، ولاحتوائها على مواد سامة تتسرب إلى الخضراوات والفواكه وتسبب أمراضًا خطرة.
يقول فايز أحمد وهو مهندس زراعي في مكتب الزراعة بمحافظة صنعاء لـصوت المهمشين: “هناك مئات من المحلات في عموم المديريات، وداخل الأسواق الشعبية تبيع مبيدات مهربة ومحظورة في وضح النهار، مع غياب تام للرقابة على هذه المحلات”. ويقول أحمد دُغَيش وهو مالك محل للمبيدات الزراعية بمنطقة شُعُوب في صنعاء لصوت المهمشين: “كل شهر هناك مئات من المبيدات الجديدة التي يعرضها علينا التجار الكبار، لا نعرف مصادرها ولا الفوائد منها، بعضها في عُلب وبعضها في كراتين وبعضها أسمدة في شوالات (أكياس كبيرة)”. ويضيف: “السلطات تستقوي علينا نحن أصحاب البيع بالتجزئة، وتصادر بعض المبيدات من محلاتنا. أين الرقابة على التجار الكبار الذين تصل لهم مئات الحاويات؟! كيف يدخلونها للبلاد؟! ما فيش دولة معنا تضبطهم”.
يقول البروفيسور عبد الرحمن ثابت، أستاذ سُمية المبيدات، بكلية الزراعة بجامعة صنعاء: “بالنسبة لنا في اليمن نستورد سنوياً ما يقرب من 3 مليون لترمن المبيدات. وقد صلت هذه المبيدات إلى ما يزيد عن 1200 اسم تجاري متداول في الأسواق المحلية”.
ويقول المهندس والمرشد الزراعي علي مُحرِز لـصوت المهمشين: “ما زال هناك كثير من المبيدات في السوق اليمنية، وهي مدرجة ضمن قوائم مبيدات السرطان الدولية: الفئة الأولى والثانية، وفقاً لتصنيف المركز الدولي للسرطان، ووكالة حماية البيئة الأمريكية والاتحاد الأوربي”. ويحذر محرز من وجود مبيدات ممنوعة وخطرة ما زالت تدخل إلى اليمن وتباع علناً، ومن هذه المبيدات: بيفنثرين – ميثوميل – ميثاداثيون – كلوروبيريفوس – أثيون – هكساكونازول – سيبرمثرين”.
انتشار واسع للسرطان وأمراض الكبد
بحسب تقرير لوزارة الصحة العامة والسكان في فبراير من عام 2021م، وصل عدد مرضى السرطان إلى 71 ألفا خلال سنوات الصراع، ويبيّن التقرير أن هناك تسعة آلاف حالة مصابة بمرض السرطان تضاف سنوياً، وما نسبته 15% بين الأطفال، وهناك 12 ألف حالة وفاة جراء المرض.
يقول ثابت: “هناك انتشار لسرطانات الفم لدى كبار السن في اليمن، وهي راجعة إلى المبيدات، وسببها أن متعاطي القات يمضغ القات في الفم لوقت طويل، فيسبب ذلك انحسار للثة وتمزقها، والمبيدات السامة في عصارة القات الملاصق للجروح، ومع التعاطي اليومي للقات، تمتص الجروح كمية من المبيدات”. ويضيف: “لدينا مؤشرات مؤكدة بالنسبة لتأثيرات المبيدات المستخدمة على القات، وهي سرطانات الفم، وسرطانات المستقيم، وسرطانات الكبد، وهي راجعة للمبيدات المستخدمة في زراعة القات”.
ويؤكد ثابت لصوت المهمشين أن خطر المبيدات يؤثر بشكل واضح على صحة النساء الحوامل والمواليد في اليمن، ويقول: “قبل 5 سنوات، أجرينا دراسة في مستشفى السبعين للأمومة والطفولة بصنعاء، ووجدنا تشوّهات في الأجنة بشكل مرعب لدى النساء اللواتي يتعاطين القات، فقد أظهرت النتائج 800 حالة لتشوهات في الأجنة في فترة الحمل”.
مبيدات شجرة القات الأكثر انتشاراً وضراراً
وفقاً لإحصائيات لوزارة الزراعة والري في نوفمبر من عام 2019م، هناك أكثر من 250 مليون شجرة قات في اليمن، ويعمل ما يقارب من ربع سكان اليمن في مجال زراعة القات وبيعه وتسويقه، وشجرة القات وحدها تستهلك نحو 70% من المبيدات والأسمدة.
يقول المواطن يحيى مجلّي: “لدي فشل كلوي في الكلية اليمنى، وضعف في الكلية اليسرى، والسبب المبيدات السامة التي يدخلونها للبلاد. الله لا وفق من كان السبب”. ويضيف مجلي: “قال الأطباء إن السبب هو السموم في القات، وأنا كنت دائماً أغسل القات قبل تناوله، ولكن أظن أنه ما ينفع الغسل، السم صار داخل الورقة”.
وتُشير دارسة قامت بتنفيذها المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان إلى أن هناك 9 أنواع من المبيدات التي تستخدم في شجرة القات لها علاقة بالأورام السرطانية المختلفة، ناهيك عن سرطانات الفم التي لها علاقة مباشرة بتعاطي القات، ومن هذه المبيدات على سبيل المثال لا للحصر المبيدات الخليط المكونة من مواد سميتها عالية مثل الفبرونيل والأميداكلوبرايد.
كما كشفت دراسة أخرى نفّذتها مؤسسة “يمن بلا قات” أن نحو 90% من المواد الفعالة للقات تُمتص عبر الغشاء المخاطي للفم، مسببة جفافا وتغييرا للأنسجة المبطنة للخد، مما يؤدي إلى ظهور أعراض تسبق الإصابة بالسرطان.
المزارعون وأسرهم هم الضحية الأكبر
يُعد المزارعون في اليمن الضحية الأكبر بسبب تعاملهم المباشر مع المبيدات، وجهلهم بالطرق السليمة للاستخدام، ولخلط مبيدات وأسمدة متعددة من دون علم بالمخاطر التي قد تترتب على عملية الخلط.
المزارع أحمد قَلالة من أهالي صنعاء مديرية بني حُشَيش، يعمل في زراعة شجرة القات والعنب، وهو مصاب بسرطان في المعدة. يقول أحمد: “كنت أرشّ المبيدات والسموم على القات والعنب طوال السنة، قبل نحو سنة أحسست بتقلصات في المعدة. دخلت صنعاء للعلاج، فقالوا عندي سرطان بالمعدة، ما كنت متوقعا للخبر، سافرت بعدها للقاهرة للعلاج، فأخبرني الأطباء أن السبب من المبيدات الزراعية”.
يقول ثابت: “تستخدم المبيدات بشكل خاطئ، وكل المعايير يهملونها، فالمزارع لا يهتم بالتوقيت المناسب للرش، ولا بالآفة التي يكافحها”. ويضيف: “يقوم المزارع برش المبيدات عكس اتجاه الريح، وهناك كثير من الإصابات لدى المزارعين وأسرهم، ومن دراسات ميدانية أجريناها في محافظة ذمار، وجدنا كثيرا من الأمراض السرطانية منتشرة في المزارعين أنفسهم وأبنائهم، نتيجة الاستخدام الخاطئ للمبيدات، بالإضافة إلى أنهم لا يلتزمون بفترة الأمان بعد رش المبيدات”.
تتزايد خطورة المبيدات المهربة والمنتهية والممنوعة دولياً على صحة الناس في اليمن، مع عدم وجود الرقابة وتطبيق القوانيين، وضعف النظام الصحي، في بلد يعاني من أزمة غذائية حادة.
( أنتجت هذه المادة بدعم من منظمة “lnternews” ضمن مشروع “Rooted in trust” في اليمن)