تتوسّع دائرة تفشي الحمِّيات الفيروسية في مدينة تعز بشكل كبير، وذلك في ظل ضعف وتدني الخدمات الطبية وعجزه عن مواجهة الأمراض والأوبئة وانهيار القطاع الصحي بقطاعيه العام والخاص؛ إذ أخذت هذه الحمِّيات تنتشر بين المواطنين في الأشهر الأخيرة من العام الفائت حتى لحظة كتابة التقرير، وراح ضحيتها الآلاف، ولم يتوقف الأمر هنا، بل تزامن مع انتشارها اجتياحٌ واسع لوباء حمى الضنك، ليسقط كل ثقل تلك المصائب والأمراض على كاهل أبناء المدينة ومدن أخرى كثيرة.
مأساة المرضى
كان للشاب أحمد خالد نعمان تجربة مريرة مع مرض الحمى الفيروسية. والأعراض التي ظهرت على حالته في الأيام الأولى من إصابته بالحمى تتشابه لدى كثير من السكان من أبناء منطقته بمديرية صَالَة ومحافظة تعز عمومًا. يحكي أحمد أنه بدأ يشعر بالصداع وقليل من الحمى التي ترتفع بمرور الساعات، ثم من آلام في المفاصل والبطن ومن غثيان ودوخة، ولم يمضِ نصف الوقت حتى استاءت حالته أكثر، لترتفع درجة حرارة جسمه إلى أن نقلته عائلته إلى المستشفى.
يقول أحمد لصوت المهمشين: “كنتُ أتألم بشدة، ولم تمر عليّ ليلة سابقة بتلك الصعوبة والألم في حياتي. ارتفعت حرارتي، وتقيأتُ كثيرًا. تناولت المهدئات والمسكنات، وكلها لم تجدِ شيئا”، ويضيف أحمد بأنه ظلّ في المستشفى ثلاثة أيام يتلقى العلاجات، وكانت الحمى تعود إليه كل ساعتين، واستمر يصارع الحمى على المغذيات والأدوية ومساندة جهازه المناعي بالغذاء. ويتابع أحمد: “كان هناك كثير من المرضى في قسم الرقود تتماثل أعراضهم مع المرض الذي أُصبت به، وكنا جميعنا نتشارك الآلام والمعاناة نفسها، لكن تعافيت وانتقل المرض إلى أسرتي أيضًا، وما زالت تراودني الحمى بين فترة وأخرى”.
وبحسب أحمد، كانت تنتقل الأعراض والمضاعفات الصحية كل أسبوع من شخص لآخر في أسرته، فيعانون من الآلام نفسها، وكانوا يظنون بأنه مرض موسمي يُسمّى محليًا “جازعة”، لكنهم لم يدركوا بأنها عدوى يتناقلونها بينهم.
تفشي المرض
تنتشر الحميات بين المواطنين في المدينة بشكل مخيف، خصوصًا في شهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر، وما زالت تدق ناقوس خطرها حتى الآن، ويصاب به كثير، لكن بدرجة وحدّة أقل من تلك الأشهر السابقة.
وبحسب بيان لهيئة مستشفى الثورة العام الحكومي نشرته نهاية العام الفائت 2022، استقبل قسم الباطنية في تلك الأشهر الثلاثة ما يقارب 3 آلاف ونصف حالة إصابة بالحميات الفيروسية، منها 2200 حالة اشتباه، وذكرت الهيئة أن نحو 100 حالة جرى ترقيدها في أقسام الرقود الباطني، بينها 6 حالات نُقلت إلى قسم العناية المركزة، مشيرةً إلى أن عدد الوفيات بلغت حينها 3 حالات وفاة في المستشفى.
هذا الحال في أحد المستشفيات الحكومية فقط في المدينة، غير أن الواقع أسوأ بكثير؛ إذ هناك كثير من المرضى ممن يذهبون إلى بقية المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية والخاصة والعيادات الطبية.
تستمر الحمّيات في اجتياح المدينة منذ أربعة أشهر حتى الآن، ويقول طبيب الطوارئ في هيئة مستشفى الثورة العام، عماد هاشم، إنه يستقبل يوميًا ما بين عشرين إلى ثلاثين حالة مرضية مصابة بالحمى الفيروسية وفق نتائج الفحوصات المخبرية، ويضيف هاشم لصوت المهمشين أن هناك ثلاث حميات فيروسية ما زالت منتشرة بكثرة في مدينة تعز: حمّى “غرب النيل”، وحمّى شيكونغونيا المعروفة “بالمكرفس”، وحمّى الضنك.
ويوضح الطبيب أن السبب الشائع في انتشار الحميات الفيروسية وانتقال عدواها بين المواطنين هو حشرة “البعوض”، وتردي الوضع البيئي والصحي، إضافةً إلى الاختلاط بالمرضى المصابين والتعامل القريب والتصافح معهم وكل الوسائل الممكنة لانتقال العدوى.
ويشير الطبيب هاشم إلى أن هناك كثيرا من الناس يصابون بالحميات، لكن منهم من يجلسون في منازلهم بسبب الظروف المادية وعدم قدرتهم على التداوي وزيارة الطبيب وشراء العلاجات، إلى جانب عدم قدرة المستشفيات الحكومية على توفير خدمات طبية جيدة وأدوية.
كارثة صحية
تعيش مدينة تعز كارثة صحية ووبائية غير مسبوقة، فمع تدهور الأوضاع والانهيار التام للقطاع الصحي في البلاد جراء أحداث الصراع، توقّفت معظم الخدمات الصحية للمستشفيات الحكومية، وتدنّت وساءت أيضًا في القطاع الخاص في ظلّ غياب الرقابة الحكومية. مع ذلك الواقع الصحي السيئ، أصبح المواطنون يخشون زيارة المستشفيات، وباتوا يعتمدون على المسكنات وشراء الأدوية من الصيدليات من تلقاء أنفسهم، أو يترددون على العيادات الخاصة من دون حسيب أو رقيب، ومن يدخل المستشفى يخرج مستاءً متعبًا.
الشاب سام البحيري أُصيب بوباء حمى الضنك، وهو جزء من الحميات الفيروسية المنتشرة في المدينة، ويذكر أنه عندما انتقل إلى المستشفيات الحكومية والخاصة، دخل وهو يعاني من أعراض الضنك المعروفة من حمى وآلام في المفاصل، وكانت حالته لا بأس بها، لكنه خرج منها وهو منهار تمامًا وبحالة صحية سيئة. “تنقلتُ ما بين المستشفيات الحكومية والخاصة في ذلك الأسبوع وأنا في شدة المرض، وخرجت منها والضغط لدي مرتفع، ومعصمي متورم للغاية بسبب الفراشات وأنابيب المغذيات التي كانت تُعطى لي بشكل خاطئ”، يقول البحيري. ويضيف لصوت المهمشين: “كانت كل يوم حالتي تسوء في المستشفيات، حتى انتقلت السوائل إلى الرئتين، وهذا أصبح يشكل خطورة كبيرة على حياتي، وكدّتُ أفقدها، لكن حينها غادرت المستشفيات، وزرت أطباء خاصّين في عياداتهم”.
هكذا هو الحال في مستشفيات المدينة الحكومية والخاصة، ضعف ورداءة الخدمات الطبية جعل الأمراض تزداد في الانتشار والمرضى تنهكهم الآلام، “مضيتُ أياما أتعالج للمرض الذي سبّبته لي المستشفيات”، بهذه العبارة اختصر البحيري حال الواقع الصحي.
عجز حكومي
في مدينة تُعدّ الأعلى كثافة سكانية بالبلاد، توقّفت المؤسسات الحكومية بكافة القطاعات منذ ثمان سنوات، أي منذ بدء اندلاع الصراع بين مختلف أطرافه في اليمن، ومنذ ذلك الوقت لم يُعد تشغيل مركز الحمِّيات المتخصص لكي يقدم خدماته للمرضى ويحدّ من انتشارها.
يقول مدير مركز الترصد الوبائي بمحافظة تعز، الدكتور ياسين الشريحي، في تصريحات صحفية لعدة جهات إعلامية محلية إن مركز الحمِّيات في تعز لا يقدم أية خدمات للمرضى، وغير مدعوم بأية ميزانية من الجهات الحكومية ووزارة الصحة، ويشير الشريحي إلى أن المصابين بالحمِّيات الفيروسية وحمّى الضنك يذهب أغلبهم إلى قسم الطوارئ في مستشفى الثورة، ويشترون الأدوية من الصيدليات التجارية، لافتًا إلى عدم وجود أي اعتمادات مالية خاصة بالأدوية المتعلقة بالحميات في المركز المتوقف.
مكتب الصحة في المحافظة يقول في بياناته الصحفية إنه عاجز تمامًا عن مواجهة الحمِّيات والأوبئة المنتشرة كوباء الضنك والسيطرة عليها، ورغم إطلاقه مناشدات متكررة للحكومة والسلطات الصحية العليا، لم يتلقَ أي استجابة. ويعدّ المكتب الحكومي أن مدينة تعز موبوءة وينتشر فيها البعوض الناقل لعدوى الحمِّيات الفيروسية والأوبئة بكثرة، وهناك حاجة ملحّة للتدخل المباشر وتوجيه المكاتب الحكومية الأخرى نحو العمل على التخلص من البؤر الرئيسة لانتشار الأمراض.
( أنتجت هذه المادة بدعم من منظمة “lnternews” ضمن مشروع “Rooted in trust” في اليمن)