قبل وفاة صالح محمد زيد عمر (45عاما) من مهمشي منطقة وادي القاضي وسط مدينة تعز، كان قد أُصيب بمرض الأميبيا عام 2006م. في البدء أهمل صالح آلامه وتجاهلها، ولم يكلف نفسه حتى عناء استشارة الصيدلي، وبحسب حديث زوجته أنها كانت تنصحه بالذهاب إلى أقرب صيدلية، لكن الآلام تفاقمت أكثر ليجد نفسه فجأة أمام أبواب المستشفيات باستمرار، ولا منقذ له من المرض بعد استفحاله في أمعائه.
تقول الدكتورة آيات مسعود اختصاصية باطنية: “غياب الوعي هو السبب الرئيس لوفاة صالح، لا الفقرُ المدقع الذي كان يعيشه مع أولاده الثمانية”، وتضيف أن كورس دواء من نوع “ميترونيدازول” أو “فلاجيل” يُنقذ حياة المريض بالأميبيا في المراحل المبكرة للمرض، والطب لا يصنّفه مرضا قاتلا، إلا عند إهماله وإحداث طفيل الأميبيا ثقبا في أمعاء المريض، وتؤكّد الدكتورة آيات أن الدواء أسعاره معقولة وليست باهظة في المراحل الأولى للمرض.
معاناة حتى الوفاة
عاش صالح مستسلما للمرض حتى تغلغلت الأميبيا في أمعائه، لأنه، بحسب حديث زوجته، لم يكن بمقدوره شراء الدواء رغم أنه ليس بالغالي، لكنه، بالنظر لإمكاناتهم، كان مرتفعا، لا سيما أن لديه أطفالا صغار السن وهم من فئة ضعيفة ومهمشة اجتماعيا. توفي صالح تاركا خلفه 3 بنات و5 بنين، أكبرهم عمره 12 عاما، وأصغرهم لم يبلغ الفطام بعد. وما صالح إلا أنموذج مصغر لفئة المهمشين الذين يتجاوز عددهم 3.5 مليون نسمة، وفق آخر إحصاءات الأمم المتحدة، ومعظم هؤلاء يسكنون بيوتا من الصفيح خالية من كل الخدمات الصحية.
يقول صالح عبده صالح، أحد أقارب المتوفي، وهو أمين عام الاتحاد الوطني لتنمية الفئات الأشدّ فقرا – فرع تعِز: “أُصيب صالح محمد زيد بمرض الأميبيا وعمره 32 سنة، وعانى من آلام شديدة، وظروف صعبة لمدة 15 سنة، تجمعت له كل المصائب من مرض وفقر وتهميش، حتى توفي عام 2016”.
وفيما يخص مساندة أقارب المتوفي، يقول صالح صالح: “بذلنا جهودا كبيرة في علاجه في عدة مستشفيات، لكن العلاجات لم تتوفر في المرحلة المبكرة، وحينما تمكنت الأميبيا من أمعاء المريض وأحدثت ثقبا فيها، كان العلاج باهظ الثمن، ونحن فئة مهمشة والأكثر فقرا في المجتمع، ولم نستطع توفير تلك العلاجات”، ويضيف أنه بعد عجزهم عن معالجته في مدينة تعز، نقلوه إلى مدينة صنعاء رغبة في رعاية صحية أفضل، محاولين البحث عن جهة صحية تتبنى حالة المريض، وتقدم له العلاج مجانا؛ لأنه مهمش وفقير، لكن الجهود كلها باءت بالفشل، وأخيرا توفي صالح زيد في صنعاء عام 2016م، ليُدفن هناك من دون أن تراه زوجته وأطفاله.
غياب النظافة الشخصية والمنزلية
يقول الأمين العام للاتحاد الوطني لتنمية الفئات الأشد فقرا -فرع تعز صالح عبده صالح: “إن مرض الأميبيا من الأمراض الأكثر انتشارا في تجمّعات المهمشين، بسبب عدم وجود المياه النظيفة وشبكات الصرف الصحي، كما أنّ معظم مساكن المهمشين من دون حمامات صحية والمياه ملوثة، والمساكن غير صالحة للسكن الآدمي، بالإضافة إلى تدني الوعي في الجانب الصحي وعدم معرفة المهمشين بمخاطر مرض الأميبيا وكيفية الوقاية منه”.
ويرى صالح عبده صالح أن غياب النظافة الشخصية والمنزلية لبعض ساكني التجمعات هي من الأسباب الرئيسية لانتشار الأميبيا، وكذلك تبرّز الأطفال في الأزقة وأمام الأبواب ثم اللعب في الأتربة المتسخة، وعند موعد الطعام يتناولون الطعام بدون غسل اليدين، مما يؤدي إلى إصابتهم بالأميبيا، وفي حالة إصابة أحد أفراد الأسرة ينتشر المرض بين بقية أفراد الأسرة.
وعن المرض، يوضح الدكتور راكان العَزْعَزي بقوله: “الأميبيا من الأمراض المعدية التي تصيب الأمعاء الغليظة، وتتعدد الأسباب التي تؤدّي إلى ظهور الأميبيا، وأهمها شرب المياه الملوثة وتناول الطعام الفاسد، وهي كائن طفيلي دقيق جدا لا يُرى بالعين المجردة، ويتكاثر في الأمعاء الغليظة ويمرّ عن طريق الفم”، ويضيف أنه لا تظهر أعراضه في الأيام الأولى للإصابة، ويبدأ ظهور الأعراض بعد مرور بضعة أشهر من دخول الجسم، وأهم الأعراض الغثيان والتقيؤ وحدوث خُرّاج في الكبد وتضخمه وفقدان كمية كبيرة من الوزن وألم شديد في البطن والشعور بالحمى الشديدة والتعرض لنوبات الإسهال المتكررة.
غياب دور الدولة
يقول صالح عبده صالح لصوت المهمشين: “تعاني تجمّعات المهمشين السكنية من إهمال الدولة وعدم بناء مراكز صحية في أوساطهم أو على الأقل قريبة منهم، وعدم النزول لأوساطهم للقيام بأعمال التوعية اللازمة يزيد من مخاطر مرض الأميبا؛ لأنه من الأمراض المعدية والأكثر انتشارا وسط ساكني تجمعات المهمشين”، ويضيف: “لا توجد مراكز صحية وسط تجمعات المهمشين إلا في تجمع واحد، وهو تجمع المدينة السكنية -البِعْرارة بمدينة تعز، وقد بُني على نفقة البنك الدولي، ورغم أن المركز الصحي مخصص لفئة المهمشين بشكل رئيس، لم توظّف فيه كوادر من فئة المهمشين عدا فتاة واحدة فقط، وهي متعاقدة وليست ذات وظيفة رسمية، ومن المؤسف أيضا عدم وجود توجّه من الدولة لتمكين كوادر الفئات المهمشة في الجانب الصحي”، ويؤكد صالح أن حالات وفاة مشابهة عدّة حدثت بين المهمشين بسبب مرض الأميبيا من دون التفات الدولة والجهات الصحية لهذه الفئات، فضلا عن منع وصول الخدمات الصحية لهم مثل شبكة الصرف الصحي وشبكة المياه.
ويأمل مهمشو اليمن الالتفات الرسمي لحالاتهم، لا سيما في الجانب الصحي الذي يُثقل كاهلهم، كما يرى الاتحاد الناطق باسمهم بأن هذه حقوق لا تسقط بالإهمال أو التقادم، ويوجهون رسالتهم إلى الجهات الرسمية، منها الحكومة ووزارتا الصحة وحقوق الإنسان، بضرورة إيلاء هذه الفئة الاهتمام الكافي من جهة التوعية والتدريب والخدمات وإدماجها ضمن جميع الخطط العامة للدولة، لأن الاتحاد العام للمهمشين يرى في المهمشين قوة كامنة ومصدر قوة كبيرة لعملية البناء والتنمية في حال وجود الدعم والاهتمام الكافيين، ويرى صالح صالح أن على المهمشين أن يترفعوا عن أحلامهم البسيطة بالغذاء والدواء والدفء والسكن الملائم حال توفرت هذه الحقوق الأساسية، ليحلموا بعد ذلك ببناء الدولة المدنية الحديثة وإعادة الإعمار لهذا الوطن الجريح عقب الصراع الدائر منذ أكثر من 7 سنوات.
تشير التقديرات إلى أن 1% في العالم مصابون بمرض الأميبيا، وأنه يسبب نحو 50 ألف حالة وفاة في العالم سنويا، وتتساءل أسرة صالح زيد الذي توفي في صنعاء بسبب مرض الأميبيا: “أما كان إنقاذه سهلًا إذا عرفنا الداء والدواء، أو توفرت لدينا جهات صحية للاستشارة والإرشاد والتوعية قبل العلاج الطبي؟!”.
( أنتجت هذه المادة بدعم من منظمة “lnternews” ضمن مشروع “Rooted in trust” في اليمن)