عند زيارتنا لأحد تجمعات المهمشين في منطقة بير باشا غربي مدينة تعز، وجدنا المُسّن جُمعان سالم محمد بجوار “خيمته” المبنية من الصفيح، التي يتخذ منها منزلاً له ولأسرته. كان حينها منهمكًا في جمع المواد الصلبة والعُلب البلاستيكية من مكبّات القمامة في ساعات الصباح الأولى، ويفصل بعضها عن بعض، ويوزعها إلى أكياسٍ بحسب نوعها، ليقوم بعد ذلك ببيعها في أماكن إعادة تدوير النفايات ذات المواد الصلبة.
يعمل الحاج جُمعان في هذا المجال منذ 60 سنة، ليتقاضى مقابل الكيس الواحد، مبلغا زهيدا لا يتجاوز ألف ريال يمني (أقل من دولار أمريكي)، ويبيع يوميًا نحو اثنين إلى ثلاثة أكياس إذا تمكن من جمع كمية كبيرة من المواد البلاستيكية الصلبة من مكبات القمامة بشوارع المدينة، ويعول من هذا العمل أسرته المكوّنة من 7 أفراد، لكن ذلك ليس كافيًا، إذ قد يتمكن من سدّ رمق جوع أطفاله في أيام وفي أيام ينال منهم الجوع!
العيش على “هامش” الحياة
يذكر الحاج جُمعان أن صعوبة توفير متطلبات الحياة الأساسية من أكلٍ وشرب، أهون بكثير من الظروف والأحوال الإنسانية التي يعيشها تحت ظلال بقايا صفيح، استطاع بها أن يخصّص له زاوية يعيش فيها مع أسرته، تحجب عنهم أشعة الشمس ولا تقيهم حرارتها، لكن الأسوأ ليس هنا، بل في عدم وجود دورات مياه “حمّامّات” لقضاء الحاجة والاغتسال له ولأسرته.
ويذكر في حديثه لصوت المهمشين أنه طوال 40 سنة يعيش مع أطفاله بدون دورات مياه، ولم يتمكّن من بناء حمّام بسبب انعدام شبكة الصرف الصحي في مسكنه الذي يعيش فيه، من جهة، ولعجزه عن توفير قيمة المواد اللازمة لإنشائه من جهة أخرى، خصوصًا في ظل الظروف المادية الصعبة والفقر المدقع.
ويضيف جمعان: “أقضي حاجتي أنا وزوجتي وأطفالي في العراء ليلاً بأماكن متفرّقة جوار خيمتنا، وفي النهار نضعها في عُلب وأكياس بلاستيكية، ونرمي بها دفعة واحدة إلى مكبّات النفايات والقمامة، ونغتسل مرة واحدة في الأسبوع بملابسنا في العراء أمام المنزل”.
لم يتمكن الحاج جُمعان من بناء حمّام أو دورات مياه، للأسباب التي ذكرها آنفا، وفي المقابل لم يجد حلولًا أخرى سوى العُلب والأكياس التي يحصل عليها مما يجمع؛ إذ يخصّص منها جزءًا لقضاء حاجته بديلاً عن دورات المياه، “هذه هي حياتنا، لا صلة لها بالحياة الحقيقية، نحاول أن نعيش بصعوبة، وأن نبقى مع أننا نعاني ونتألم”، هكذا اختصر معاناتهم.
مساكِن بلا “حمّامّات”
في التجمع الذي يعيش فيه الحاج جُمعان يوجد ما يقارب 50 أسرةً مهمشة، وتسكن في خيام مكتظة مبنية من الصفيح فوق مقبرة ذات مساحة واسعة من الأرض بجوار سوق “عبده سيف” في منطقة بير باشا، وجميع تلك الأسر لا تمتلك حمّامّات على الإطلاق، ويقضون حاجتهم بالطريقة نفسها التي حكاها الحاج جُمعان.
يقول سمير صالح، وهو يعيش في التجمّع نفسه مع أسرته، إنه لا يمتلك حمّاما، وأنه وأسرته يقضون حاجتهم في العراء، ولا يستطيع بناء حمّام لأنه يحتاج إلى تكلفة مالية كبيرة، وتكاليف نقل وتوصيل، وربطها بشبكات الصرف الصحي، وهو غير قادر على ذلك، خصوصًا أنه يتقاضى أجورا زهيدة مقابل عمله “حمّالا” في نقل المواد الغذائية في المحالّ التجارية تارةً، وفي إفراغها من وإلى مركبات النقل والشاحنات تارةً أخرى.
يتابع في حديثه لصوت المهمشين: “لم أتمكن من إنشاء حمّام؛ لأنني لا أمتلك المال، والحمّام بحاجة إلى مواد ووصلات معدنية وبلاستيكية تربطه بشبكات الصرف الصحي، وهي بعيدة جدًا عن منزلي؛ لأننا في مقبرة أساسًا، ونحن بحاجة لمن يساعدنا على ذلك، لكن لم يلتفت إلينا أحد، لا منظمات ولا دولة”.
وفي هذا الخصوص، يوضح سالم محمد، وهو عاقل تجمّع المهمشين، أن منظمة “كير” الدولية، كانت قبل ثلاثة أعوام قد بادرت في إنشاء حمّامات للأسر التي تعيش في تجمع المهمشين، لكنها انسحبت ووقفت مشروعها بسبب عدم وجود شبكة صرف صحي في تجمّع المهمشين أو مجرى صرف صحي رئيسي وعدم ارتباطه بشبكة الأحياء والشوارع المجاورة.
ويضيف لصوت المهمشين أنه عمل في تلك الفترة على المتابعة والتنسيق مع الصندوق الاجتماعي للتنمية في المحافظة، وقام بوضع مجرى رئيسي للصرف الصحي بجوار مجمّع المهمشين، وعملوا على ربطه بشبكة الصرف الصحي للأحياء والمناطق المجاورة، مشيرًا إلى أنه تواصل بعد فترة من ذلك مع منظمة “كير” لعودتها إلى تنفيذ مشروع إنشاء دورات المياه، لكن المنظمة ذكرت أنها قد نفذت ذلك المشروع في مناطق أخرى.
إمكانيات مُنعدمة
أصبح تجمّع المهمشين ذلك مرتبطًا بشبكات الصرف الصحي مع الأحياء والمناطق المجاورة بعد أن كان معزولًا، ولا يوجد فيه مجرى رئيسي، لكن على الرغم من هذا لم تتمكن الأسر من إنشاء حمامات خاصة بها ومد أنابيبها إلى المجرى، بسبب انعدام الإمكانات وتكاليف شرائها الباهظة، من أنابيب ومراحيض، لا تقدر عليها الأسر، كحال الحاج جُمعان وسمير صالح.
وفي هذا الصدد، يقول العاقل سالم إن الأسر في تجمّع المهمشين ما زالت بحاجة إلى أنابيب لمسافات طويلة لتكوين شبكة صرف صحي داخلية بين المنازل، ثم إلى أنبوبة كبيرة بطول أكثر من خمسين مترًا تصل إلى أنبوب المجرى الرئيسي المرتبط بالشبكة العامة للصرف الصحي بالمنطقة، لافتًا إلى أن ذلك يحتاج إلى تكلفة كبيرة، ولن يستطيع المهمشون السكان توفير تكاليفها، إضافةً إلى شرائهم لمراحيض لكل حمّام في كل منزل.
حال الأسر المهمشة التي تعيش في هذا التجمّع بدون حمّامّات، يماثل بقية تجمّعات المهمشين في مناطق متفرقة من المدينة وعلى أطرافها، ولا يوجد إحصاء رسمي أو غير رسمي عن الظروف التي يعيشها المهمشون في تجمّعاتهم، أو إحصاء بعدد من يمتلكون دورات مياه، لكن في النطاق الجغرافي خارج محافظة تعز، وجدنا دراسة مسحية لمنظمة الأمم المتحدة “يونيسف” استهدفت تجمعات المهمشين في محافظة عدن فقط، وشملت تلك الدراسة الصرف الصحي لتجمّعات المهمشين هناك.
وبحسب الدراسة، تبيّن أن 79% من الأسر، بواقع 6802 أسرة، لديها مراحيض، وأن 95% منها توجد داخل المسكن، و2% خارجها، غير أن 83% فقط من تلك المراحيض صالحة للاستخدام، أما النسبة المتبقية من الأسر، منها 3% تفتقر لمرفق صرف صحي ملائم، و5% يلجؤون لقضاء الحاجة في العراء، بينما 18% يستخدمون أكياس بلاستيكية، و63% عند الأقارب والجيران.
وتشير الدراسة إلى أنه لا يوجد فوارق بين الجنسين باستثناء فارق هامشي، بواقع نقطتين مئويتين طبقًا لنوع الأسرة، أما بحسب طبيعة الإقامة، فتعدّ الأسر المقيمة أوفر حظًا في امتلاك مراحيض قياسًا بالأسر النازحة بواقع نقطتين مئويتين؛ إذ إن 259 أسرة تشارك المراحيض مع أسر أخرى، ويبلغ متوسط عدد الأسر التي تتشارك مرحاضا واحدا 2-5 أسرة بين الأسر المقيمة و2-3 أسرة بين الأسر النازحة.
ووفق الدراسة، فإن الغالبية العظمى من المراحيض، بواقع 91%، مراحيض متصلة بسيفون شطف وتُصرّف إلى شبكة المجاري، وذلك بواقع 4012 أسرة، بينما 32%، بواقع 2178 أسرة، تُصرّف إلى تيارات، و8%، بواقع 526 أسرة، تمتلك مرحاضا، هو “حفرة” من دون بلاط، أي حفرة مفتوحة على سطح الأرض، و1%، بواقع 60 أسرة، تصرّف إلى العراء أو الشوارع.