يعاني المهمشون “ذوو البشرة السمراء” في اليمن التمييز العنصري والتهميش على حدٍ سواء، الأمر الذي يجعلهم يعيشون فقرًا مدقعًا وضعفًا كبيرًا في التعليم وغياب للوعي والإدراك، لكن الجانب الأكثر عتمةً يقع على نساء هذه الفئة؛ إذ من النادر للغاية أن نجد امرأة مهمشة متعلمة وناشطة وناجحة في مجتمعها على الرغم من بؤس الواقع المحيط بها.
مسك سعيد المقرمي (40 عامًا) ناشطة مجتمعية وحقوقية من فئة المهمشين في مدينة تعز، حقّقت كثيرا من الإنجازات وأسهمت في معالجة كثير من قضايا المهمشين، خصوصًا القضايا التي تخص المرأة المهمشة، وعملت على تنمية أفراد الفئة والسعي لدمجهم مع بقية فئات المجتمع، ومثلت المرأة المهمشة في اللقاءات والمؤتمرات النسوية، كان آخرها المشاركة في مؤتمر القمة النسوية العليا للهيئة الوطنية للمرأة، وهو مؤتمر يعقد سنويًا لنحو 300 امرأة ناشطة مجتمعية باليمن عامة.
تترأس مسك المقرمي حاليًا جمعية “كفاية” الاجتماعية التي تُعنى بقضايا المرأة المهمشة والدفاع عن حقوقها وتنمية المجتمع المهمش، كما تترأس القطاع النسوي بملتقى تعز الجامع والمساند للسلطة المحلية بمحافظة تعز وتمثل المهمشين فيه، إضافةً إلى إدارتها لمركز “الوعي والتنمية” الخاص بتعليم الأطفال والنساء المهمشات ورفع وعيهنَّ بحقوقهنَّ وتمكينهنّ اقتصاديًا.
حصلت مسك على البكالوريوس في اللغة عربية عام 2008 من جامعة تعز، وتدرس حاليًا بكالوريوس شريعة وقانون في جامعة الجند، وعلى الرغم من أن ثقافة التعليم ليست متجذرة في فئة المهمشين، خصوصًا لدى النساء، ثابرت واجتهدت على مواصلة تعليمها بشغف وعزيمة لتفيد مجتمعها وتغيير الواقع الذي يعيشه، وحصلت على مساندة ودعم من أسرتها التي يعتبر غالبية أفرادها متعلمين، كما تقول.
وتضيف مسك لصوت المهمشين: “التحقتُ بالجامعة سنة 2004، درست بمساعدة أسرتي ودعمني والدي كثيرًا، لأن والدي يؤمن بالعلم ولا يستسلم للتهميش بتاتًا”. واجهت مسك كثيرا من الظروف الصعبة في بداية مشوارها التعليمي، لكنها استطاعت أن تتغلب عليها. “كانت الظروف في البداية محبطة؛ لأني امرأة مهمشة وكنتُ أخشى التمييز حتى في الجامعة لكنني كافحت واجتهدت كثيرًا لمواصلة الدراسة”.
صوت المرأة المهمشة
بعد سنوات من تخرّج مسك من الجامعة، وقبل 11 عامًا تحديدًا من الآن، بدأت نشاطها المجتمعي والحقوقي وحملت على عاتقها قضايا المرأة المهمشة وجعلت من صوتها ينادي بحقوق المرأة ويناصر قضاياها وعملت على الدفاع عن حقوقها والانتهاكات التي تطالها، إضافةً إلى السعي الدؤوب لتعليم النساء من أبناء جلدتها ورفع مستوى وعيهنّ بحقوقهنّ في المجتمع.
تذكر مسك أن سبب دخولها في العمل المجتمعي والحقوقي، وهو طبيعة واقع المرأة المهمشة والانتهاكات الكبيرة التي تتعرض لها إلى جانب الاضطهادات التي تعاني منها كل يوم والتمييز العنصري، غير أن غالبية النساء المهمشات لا يحصلن على حققوهنّ في التعليم والعمل والعيش الكريم، أسوةً ببقية نساء المجتمع.
تتابع في حديثها لصوت المهمشين: “كنتُ أستغرب لماذا النساء المهمشات يعملن في التسوّل؟! ويُستبعدنَ من فئات المجتمع، خصوصًا في الريف، ومن هذا المنطلق قررت أن أُناصر المرأة المهمشة وأحاول حلحلتها من الواقع البئيس الذي تعيشه والانتهاكات والحرمان الذي تعاني منه”.
بادرت مسك في تبني قضايا النساء المهمشات وانتزاع حقوقهنّ بسعي ذاتي منها، إلى أن قامت بتأسيس “جمعية كفاية الاجتماعية” عام 2014، كانت أبرز أهدافها العمل على رفع الوعي لدى النساء المهمشات وتمكينهنّ اقتصاديا وسياسيًا والعمل على إيجاد حاضنة قانونية تحميهنّ، وفي السنوات الأخيرة توسعت أهداف الجمعية لتشمل قضايا المجتمع المهمش وتنميته ككل.
تقول مسك: “لم يكُن هناك أي جمعية أو اتحاد يكفل حقوق المرأة ويدافع عنها، وكانت قضايا النساء المهمشات مغيبة تمامًا، لذلك عملت على تأسيس جمعية كفاية الخاصة بقضايا المرأة وشؤونها، بمعنى كفاية تهميش للنساء، كفاية تسوّل، كفاية اضطهاد”. وتتابع: “عملت على تبني كثير من القضايا الخاصة في المرأة وعملت على متابعتها في المحاكم أيضًا، وكانت أبرزها قضايا انتهاكات للنساء وقضايا اغتصاب لقاصرات مهمشات”.
تمكين المرأة المهمشة
عملت مسك طوال السنوات الماضية بدعم ذاتي، خصوصًا وقت اندلاع الحرب خريف 2015، وكان لديها عدد من المشاريع التنموية لتمكين النساء المهمشات وأفراد الفئة عامة، إلا أنها لم تحصل على الدعم اللازم في البداية لتنفيذ تلك المشاريع، لكنها بدأت بالترويج لأفكارها وللجمعية على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، وحينها حصلت على الدعم، خصوصا من الناشطة “منى لقمان”، رئيسة مؤسسة “الغذاء من أجل الإنسانية”، التي دعمتها كما تقول وضمِنت استمرارية مشاريعها.
استمرت مسك في إعداد مشاريع تنموية للمرأة المهمشة، وقامت بتقديمها إلى المنظمات الإنسانية العاملة في مدينة تعز، وحصلت على الدعم اللازم لتنفيذها من خلال جمعية كفاية التي ترأسها؛ إذ منذ تأسيس الجمعية قبل سبع سنوات وحتى الآن استطاعت أن تؤهل (180) امرأة مهمشة في مدينة تعز وريفها، من خلال تدريبهنّ وإكسابهنّ مهارات حرفية كصناعة البخور والنقش والرسم، كما تقول.
وتضيف: “كنا ندرب ونعلم النساء ونقدم لهنّ سلة غذائية شهرية لتستمر في التعليم ولا تضطر للخروج للعمل والتسوّل، وحاليًا بعد التدريب يقمن بصناعة البخور والعمل في النقش واعتمادها كمصدر دخل، ولم يعُدنّ بحاجة للتسوّل، لأنهنّ أصبحنّ يمتلكنّ مهنة وحرفة تعول المرأة من خلالها نفسها وأسرتها”.
وتشير مسك إلى أنها أيضًا نفذت أكثر من (80) دورة توعوية استفادت منها المرأة المهمشة وبقية النساء في المجتمع من غير المهمشين، إضافةً إلى أن (15) شابة من النساء المهمشات كان لها دور في دخولهنّ كليات الجامعة من خلال بحثها عن دعم ومنح لهنّ ومقاعد دراسية من قبل المؤسسات الخيرية. وتتابع: “الشباب المهمشون بحاجة ضرورية للتعليم، لكن معظمهم غير قادرين على دفع الرسوم الدراسية للجامعات، لذلك التقيت في إدارة جامعة تعز في مدينة التربة وطالبت في تفعيل مجانية التعليم للطلاب المهمشين الملتحقين في الجامعة، ودخل كثير من الطلاب للدراسة فيها”.
وفي نهاية العام الماضي، عملت مسك على إعداد مشروع “وسيطات السلام السمر” وترأسته، وكانت قد دعمته منظمة “كير” ومنظمة “أجيال بلا قات”، وهو مكوّن من لجنتين وساطة من النساء المهمشات يعملن على النزول إلى مساكن المهمشين في مديريتي المظفر والقاهرة بمدينة تعز، والعمل على حل النزاعات بين مجتمع المهمشين ورصد الانتهاكات فيها، وتلفت مسك إلى أن هذا المشروع المُشكل من نساء الفئة نفسها، يحدث لأول مرة على مستوى اليمن.
واقع المرأة المهمشة
التمييز العنصري والتهميش الذي تعاني منه فئة المهمشين كان أشد تأثيرًا على النساء؛ إذ تعيش المرأة تهميش في إطار الفئة ذاتها في مجتمع ذكوري، إلى جانب الاضطهادات والانتهاكات التي تتعرض له من قبل المجتمع بشكل عام، وهذا ما جعل مسك تعمل على حماية المرأة والدفاع عنها والمطالبة بحقوقها، بالرغم من شحة الإمكانات التي تعمل بها.
وتقول مسك وهي تحكي قصتها لصوت المهمشين: “حصلت على انتكاسات وإخفاقات كثيرة في بداية مشواري في النشاط المجتمعي والحقوقي، لكن كان هناك سبب يدفعني للمواصلة والاستمراري، وهو الانتصار لقضايا المرأة المهمشة وإيصال صوتها للمجتمع، وأعدّ هذا من واجبي ومسؤوليتي”.
وتتابع: “المرأة المهمشة حاليًا تواجه تهميشا مركبا ومتعددا وتعاني من التسلط الذكوري، إلى جانب التخلف والجهل والأمية، لذا تعد قضية المهمشين بالنسبة لي قضيتي الأولى، وسوف أسعى إلى إلغاء العنصرية ضد مجتمع المهمشين بشكل عام، وتوصيل صوت المرأة إلى صانعي القرار وإيصالها حتى إلى المؤتمرات وللجان المفاوضات”.
وفي هذا الخصوص، يرى رئيس جمعية شباب النهضة وممثل المهمشين في السلطة المحلية بتعز أكرم الشرعبي أن المرأة المهمشة تعاني من تهميش مضاعف وتواجه مشاكل وصعوبات كبيرة وتحديات وتعاني من تردّي التعليم، وخصوصا إذا لم تكن مؤهلة ومتعلمة، فسيكون من الصعب دمجها بالمجتمع، ويجب أن ترسّخ ثقافة تعليم النساء لدى أبناء الفئة.
ويقول في حديثه لصوت المهمشين: “إن تعليم المرأة المهمشة سيعمل على إخراجها من دائرة العزلة التي تعيشها حاليًا، وسيعمل على تنميتها وتطوير ذاتها لأن تصبح مؤهلة لتتقلد مناصب قيادية ويكون دورها فاعلاً في المجتمع”. وتتفق مسك المقرمي مع هذا الرأي القائل إن أبرز المشاكل التي تواجهها المرأة المهمشة هي التعليم؛ إذ في مدينة تعز فقط يصل عدد المتعلمات من النساء المهمشات بنسبة 10% من أصل (800) امرأة مهمشة، وفق احصائية لجمعية كفاية التي تديرها مسك.
الدمج.. الحُلم المنشود
عند نزولنا إلى الحي الذي تسكنه مسك المقرمي للالتقاء بها في منطقة “الكوثر” بمديرية صالة، لاحظنا تعايشًا غير مسبوق بين الأطفال والنساء المهمشين وغير المهمشين من أبناء الحي، ووجدنا اندماجا مجتمعيًا لم نلحظه في مساكن المهمشين الأخرى بنفس المدينة والتجمعات التي يقطنوها هي في عزلة تامة عن أفراد المجتمع، وهذا يعود إلى الجهود التي تبذلها مسك في سبيل تحقيق الدمج المجتمعي لفئة المهمشين ببقية فئات المجتمع اليمني.
وفي هذا الصدد، تستطرد مسك قائلةً: “هدفي الأساسي من عملي ومشاريعي وهو الدمج، وقمت باستهداف أفراد المجتمع كله في معظم المشاريع التي عملت عليها حتى اليوم لتحقيق الدمج، وجميع المشاريع الإغاثية والإنسانية والصحية كانت تستهدف المجتمعات المهمشة وغير المهمشة في الحي الذي أعيش فيه والأحياء المجاورة في الضَّبُوعة والأخوة”.
وتشير إلى أنه لا يجب أن نكون عنصريين إذا أردنا أن نبحث على الدمج الحقيقي، لذا فهي لم تكُن عنصرية عند توزيعها للحقائب الصحية، بل شمل التوزيع جميع الناس في الحي، لافتةً إلى أنه عند دمج الناس جميعها بالمشاريع من مهمشين وغير مهمشين سوف يساعد على رفض العنصرية والتمييز، وهذا ما تسعى إليه في الوقت الحالي.
وتضيف: “عملت على الدمج على مستوى إدارة جمعية كفاية التي أترأسها، فهي مكوّنة من ذكور إناث مهمشين من المتعلمين وغير مهمشين من فئات المجتمع”.
وفي العام الماضي، أسست مسك “مركز الوعي والتنمية” بجهود ذاتية في بداية تأسيسه إلى أن حصلت على دعم محدود بعد ذلك، ويهدف المركز لتعليم الأطفال والنساء ورفع والوعي لديهم، ويعمل على تقديم برامج في تعليم محو الأمية وكذلك التمكين الاقتصادي للمرأة المهمشة الشابة خصوصًا وإكسابهن مهارات حرفية، وبحسب مسك استقبل المركز في البداية (30) طفلا و(30) امرأة من المهمشين، منهم (15) طفلا و(15) امرأة من غير المهمشين.
وعند استغرابنا عن سبب تعليم المركز لأفراد من خارج فئة المهمشين، ردّت مسك قائلةً: “نحن نسعى للدمج، وبالتالي تعليم المركز لأطفال ونساء غير مهمشين إلى جانب المهمشين، سيُسهم في عملية دمج المهمشين بالمجتمع من حولهم، وأستطيع القول إنني جعلت من سكان منقطتي مجتمعا واحدا بين مهمش وغير مهمش”.
ومطلع الشهر الماضي استملت مسك (600) حقيبة صحية وعملت على توزيعها لجميع المواطنين من مهمشين وغير مهمشين في الحي الذي تعيش فيه والأحياء المجاورة، رغم أن تلك الحقائب كما تقول استملتها من مكتب الصحة بالمحافظة على أن تقوم بتوزيعها فقط للمهمشين، لكنها في إطار سعيها لتحقيق الدمج شمل التوزيع الأفراد غير المهمشين، وقد لحظنا ذلك عند زيارتنا إلى منزلها وهي تقوم بتوزيع تلك الحقائب لأفراد من اللون الأسمر والأبيض.