تُشير الساعة إلى الثانية بعد منتصف الليل. الجميع يغط في نوم عميق، يحلم البعض بأحلام وردية، ويحلم البعض بأن يصبح على واقع أجمل. يبدأ صوت ضعيف من بعيد، وبعده صوت انفجار هائل يوقظ كلّ النيام. تتعالى أصوات النساء هلعا، ويصرخ ويبكي الأطفال خوفا. يهرع البعض إلى الصالات والبعض إلى البدروم. يتجّمع بعضهم بجانب بعض ليشعروا بالأمان.
هذه المشاهد تتكرر بشكل شبه يومي منذ بداية الصراع في اليمن، حيث يعيش حوالي 1.2 مليون طفل في اليمن في 31 منطقة مشتعلة بالنزاع، بحسب التقرير الصادر عن منظمة اليونسيف للطفولة في عام ٢٠١٩.
“يا رب ارحمنا. يا رب نموت” بهذه الكلمات تستنجد “جنات عمرو” البالغة من العمر ١٠ سنوات في كل يوم تسمع فيه صوت الصواريخ والقذائف، وتلوذ بالفرار إلى أحضان والدتها خوفا من أن تصحو في الصباح والركام فوق رأسها. أما “ليان فؤاد” ذات التسعة الأعوام، فتصحو من نومها فزعة وتقول لوالدتها: “ماذا يريدون منا؟ ولماذا هذه الحرب؟”، فتبادر أمها بالرد: “ادعي الله يا ابنتي، ولا تخافي”، وتأخذها في حضنها لعلها تشعر بالأمان.
أطفال المهمشين وأضرار الحرب
في المدينة السكنية بتعز، تعرّضت الطفلة “شيماء علي أحمد قائد” ذات الثمانية الأعوام إلى بتر قدمها بسبب قذيفة أطلقت عام 2018م، وفي المكان نفسه، قُتل ثلاثة أطفال.
أكد نجيب شنتوف رئيس الدائرة الاجتماعية بجمعية تنمية من أجل الدمج بتعز أن هذه الحوادث أدّت إلى خلق حالة رعب شديد لدى الأطفال في التجمعات الخاصة بالمُهمشين، فعند سماعهم أصوات القذائف، يفرّون ركضا إلى منازلهم وأكواخهم المبنية من الصفيح وإطارات السيارات.
وأكّدت سماء عبد الله، إحدى الساكنات في تجمع للمهمشين، على حالة الذعر التي تصيب الأطفال، خصوصا في التجمعات القريبة من المعسكرات، وهو الأمر الذي يتسبّب بعُقد نفسية صعبة لن يستطيع الأطفال تجاوزها نتيجة عدم معرفة الأسر بالآثار النفسية وأهمية العلاج النفسي لهؤلاء الأطفال، ويكتفي الآباء والأمهات بإخراجهم من هذه الحالة ومواساتهم ببعض الكلمات والتعذر بأن هذه أصوات لزفاف ما أو العاب نارية للاحتفال بالعيد.
اضطرابات نفسية لتجارب الحرب المؤلمة
أوضح بحث نُشر في مجلة World Psychiatry للصحة النفسية عام 2018 أن هناك علاقة بين التعرض للحرب وتبعاتها، وكمية الضغوطات التي يعاني منها الأطفال والمعيقة لهم في مجالات التكيُّف المختلفة على مدار حياتهم فيما بعد.
“أي صوت من الممكن حدوثه يشكل قلقا لابنتي”، هكذا تقول أحلام عبد الله، وهي أم لم تستطع السيطرة على خوف ابنتها وقلقها، وتعاني كثيرا في إقناع طفلتها بأن الأصوات التي تسمعها أصوات عادية ولن تضرها، وليس كل الأصوات التي نسمعها مرتبطة بالحرب.
وتؤكد الاختصاصية النفسية للأطفال أماني سويد أن الصراعات والحروب أثّرت بشكل كبير على الأطفال من نواحٍ عدة، أهمها: جانب الأمن باعتباره، بحسب النظريات النفسية، من الاحتياجات الأساسية للحياة كالأكل والشرب والأمان والمسكن، وتقول: “عندما تتزعزع الفكرة الأساسية للأمان، ينتج عنه خلخلة في كل المعتقدات والأفكار عند الأطفال، حتى في طريق توصيل الأفكار أو مفهوم الأمان، وعندما يحدث الضرب والقصف بشكل عشوائي سواء بالقرب من المدارس أم المناطق السكنية، تتنوّع حالات الخوف من طفل إلى آخر، فأحيانا يكون هناك خوف واضح ومحدد، والطفل نفسه يستطيع معرفة مما يخاف، وأحيانا لا يكون للخوف سبب محدد، ولا يستطيع الطفل تحديد ما يخاف منه، ويتحول حينها الخوف إلى تعبير سلوكي”.
وأشارت سويد في حديثها لصوت المهمشين إلى أن أكثر الاضطراب شيوعا بين الأطفال هي الاكتئاب والقلق والتبول اللاإرادي واضطرابات اللغة والكلام، بالإضافة إلى خلخلة في بناء الشخصية لدى الأطفال، وهو الأمر الذي يجعل شخصية الطفل شخصية تجنُّبية واعتمادية على الأهل، ويفتقد بذلك للشخصية القوية للدفاع عن نفسه، وهو مما يجعله عرضة للتحرش والاغتصاب والاتجار به، وغير ذلك من حالات العنف.
وفي نفس السياق، أكد المستشار النفسي محمد الإيطالي أن أكثر المشاعر التي تتأثر أثناء القصف والنزاع المسلح هي مشاعر الطفل؛ لأن الأطفال لا يمتلكون قاموسا لغويا ومفردات للتعبير عن الخوف والقلق والتوتر، وبالتالي تظهر عليهم بعض من الآثار بشكل سلوك، ومن الممكن حدوث تأثير نفسي اجتماعي على الطفل، فنجده لا يسمع الكلام ويصبح انطوائيا وعدوانيا مع الأطفال الآخرين، بالإضافة إلى زيادة العصبية وارتفاع الصوت.
ويضيف الإيطالي: “قد يحصل، بعد التأثير الاجتماعي النفسي، تأثير معرفي، وهذا التأثير يقلّل من إدراك الطفل، وهو الأمر الذي يُسهم في تدني المستوى الدراسي بسبب تشتت الذهن النفسي، وبالتالي تكون عملية التعلم أو الفهم والتلقي أضعف مما كانت في السابق، وذلك بسبب الخوف والقلق الذي يتعرض له الطفل”.
وأشار إلى أن عددا من الأعراض قد لا تظهر وقت الأزمة، ولكنها تظهر بعد فترة بين ستة أشهر وسنة، وتُسمى نفسيا بتأثير ما بعد الصدمة، وأهم أعراضها التبول اللاإرادي واضطراب النوم وتقطعه، بالإضافة إلى تأتأة الكلام وقضم الأظافر.
أوقفوا الحرب حماية لحقوق الأطفال
“منع النزاع ومعالجة الانقسامات محور مهم لحماية حقوق الطفل”، هذا ما أكّدته الاختصاصية الاجتماعية سلمى عبد الله، وأكدت في حديثها: “نحن بحاجة ماسة لتفعيل وتنفيذ المبادرات التي تدعو إلى توفير حماية فعالة للأطفال، والتي تُسهم بدور كبير في تحقيق حقوقهم المختلفة التي لن يحصلون عليها إلا بإيقاف الحرب”.
وتضيف: “يجب أن تُقر قوانين وتشريعات حول كيفية حماية الطفل من القتل والاغتصاب والعنف أثناء النزاع، ويجب أن تُرصد الانتهاكات التي تطال الطفولة في مجتمعنا، وأن يُبلغ عن أي انتهاك، وأن يُحاكم المتسببون بذلك محاكمة عادلة، بالإضافة إلى توفير الدعم النفسي وإتاحة الفرص التعليمية والصحية لكل طفل تضرّر أو تأثر بالنزاع، وذلك من أجل التغلب على مخاوفه وصدماته والتعافي من جديد”.
ويؤكد الناشط المجتمعي علي عدنان على أهمية دور الأسرة في تقديم الدعم، والرعاية للأطفال أثناء النزاعات المسلحة والبحث عن عوامل الحماية المتعلقة بالأطفال بتعزيز إمكانية الطفل على التغلب من مشاعر الخوف والقلق بتقديم الرعاية والأمان للتخفيف من المعاناة التي يشعرون بها.
ويرى المستشار النفسي محمد الإيطالي أهمية مساندة الأبوين للطفل والبدء بخطوة الاحتواء والقيام بمتابعة حالتهم النفسية والصحية وعدم إشعارهم بالخوف، ويقول: “يجب على الوالدين أن يحددوا سن أطفالهم، فإذا كانوا في سن يسمح لهم بفهم ما يحدث من حولهم، فحينها تبدأ خطوة الشرح لهم بعيدا عن التخويف وإثارة الذعر، وإذا كان سنهم لا يسمح بذلك، فلا داعي للتحدث أمام الطفل بالأخبار السيئة، ويجب أن نتجنب أخبار القصف والموت والتدمير”، ويشدد على منع الأطفال من متابعة مشاهد القتل والتدمير والموت، وضرورة محاولة شغل وقت فراغهم عن طريق الانخراط بمجموعة من الأنشطة التعليمية والترفيهية مثل الرسم واللعب والقراءة.
ـــــــــــــــــ
الصورة بعدسة/ وهب الدين العواضي – تعز