في ظلّ استمرار النزاع والانقسام السياسي باليمن، وشكوى المسؤولين من قلة الإمكانات، وتنصّلهم من دورهم، تفاقمت معاناة المواطن منذ أكثر من سبع أعوام. كل ذلك أنتج مزيداً من الأزمات والتدهور المعيشي، وقد كان لسوق الأدوية والخدمات الصحية النصيب الأكبر من ذلك. خلال السنوات الماضية شهدت أسعار الأدوية ارتفاعا مُضاعفا في جميع أصنافها، جراء التضارب الكبير في سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، ووجود مساحة خصبة ساعدت على دخول الأدوية المُهرّبة لتكتسح السوق المحلية، في ظلّ ضعف عمل الهيئات الرقابية، خاصة الأدوية التي انعدمت من الأسواق. كل تلك العوامل سبّبت تحدياً صعبا للمرضى اليمنيين، وأثرت كثيراً على النازحين وذوي الدخل المحدود والفئات الضعيفة من الفقراء والمُهمشين. في هذا التقرير نستعرض تلك المُعاناة وتداعيات ارتفاع أسعار الأدوية ودور الجهات الرقابية في التعامل مع مهرّبي الأدوية، وتأثيرها على حياة المواطن.
الحرب والنُزوح حَرَماني من الحصول على الدواء المجاني
يحكي المواطن بخاري حمود عبد الواحد (من أهالي قرية الرَعِينة بمديرية شَرعَب الرَّوْنة بمحافظة تعز) معاناته في البحث عن علاج ولده، فيقول: “رُزقت بولدي عصام في عام 2008، وبعد عام من ولادته، أصيب بفقر الدم، ونحن عائلة كثيرة العدد مكونة من أبوين وسبع بنات وثلاثة أولاد وفقيرة ماديا، ويخضع عصام لجرعات مُستمرة من حمض الفوليك والمضادات الحيوية والهيدرا وحُقنة كل واحد وعشرين يوما، وتزداد الجرعة كلما تضاعفت أوجاعه”.
يقول والد عصام: “قبلَ الحرب قضينا وقتا طويلا في مستشفيات تعز، وقد سجّلت بعض أفراد أسرتي لدى جمعية “أصدقاء الدم”، لكن سرعان ما دقّت طبول الحرب في المدينة، وتعسّر التواصل مع الجمعية، وحفاظا على حياة أسرتي وبحثا عن ملاذ آمن يوفّر الدواء والغذاء لأسرتي وطفلي، نزحنا إلى منطقة الوديعة في حضرموت، وحصلتُ على عقد عمل غير نظامي للعمل كمُعلم في إحدى المدارس براتب زهيد، وما زلتُ أبحث عن فرصة أخرى تمكنني من توفير المتطلبات الرئيسية والدواء لأولادي”.
ويقول أيضا: “طفلي يعاني من التكسّر وخلل في صمامات القلب، وضغط رئوي حادّ، وتضخم في الكبد، ولديّ ثلاث فتيات لديهن نفس المرض. توفّيت إحداهن، والأخرى أصيبت بجلطة دماغية تسبّبت لها بإعاقة نصفية، وكل هذا بسبب الغلاء الفاحش والأسعار الجنونية. حياة أسرتي يحيط بها الموت، ولا أقوى على فعل شيء”.
ويضيف قائلاً: “عرضتُ حالة عصام على أطباء في المستشفى الميداني السعودي، ولأنه ميداني لا يوجد به خدمة نقل الدم، قرّر الأطباء تحويل المريض إلى مدينة سيئون، وهناك شُخصّت حالته، واكتشفنا أن حالته تضاعفت من تكسّر بالدم إلى خلل في صمامات القلب، وضغط رئوي حاد، وتضخّم في الكبد، الأمر الذي كسر ظهري وزاد من معاناتي”، ويضيف أيضا: “وضعي لا يسمح بمواجهة أمراض مثل هذه، وولدي يحتاج لتدخّل جراحي بحسب التقارير، ولديّ ثلاث بنات مصابات بتكسرات بالدم. توفيت إحداهن في 2013، والأخرى أصيبت بجلطة دماغية تسببت لها بإعاقة نصفية، وكلّ هذا بسبب الغلاء الفاحش والأسعار الجنونية، حياة أسرتي يحيط بها الموت ولا أقوى على فعل شيء”.
ارتفاع سعر الصرف وجشع بعض التجار وعدم مراعاة ظروف المواطن
يحكي الطبيب عمر حسان (اختصاصي أنف وأذن وحنجرة) حول أسباب ارتفاع سعر الدواء في الصيدليات، فيقول: “للأسف ارتفعت أسعار الأدوية في الفترة الأخيرة في الصيدليات الخاصة وداخل المستشفيات، ويعود ذلك إلى أن معظم الأدوية مستوردة أو المواد الخام للمصانع المحلية أيضا مستوردة، وبالتالي تكون بالعملة الصعبة، ونظرا لهبوط سعر الريال اليمني أمام العملات الأجنبية، ارتفعت أسعار العلاج بشكل كبير، وارتفعت بذلك تكاليف الشحن الجوي والبري مما أثقل كاهل هذا الشعب المغلوب على أمره”.
ويضيف: “جشع بعض تجار الأدوية وعدم مراعاة ظروف الناس الصعبة، وغياب دور المنظمات التي تذهب في تمويل مشاريع التغذية وتُهمل رفد المستشفيات الحكومية بالأدوية لتوفيرها بالمجان للمواطن، وغياب دور وزارة الصحّة في دعم توفير الأدوية المجانية للمرضى، كل هذه العوامل أثرت على أسعار الأدوية”.
انتعاش سوق الدواء المُقلد والمُهرب وانعدام الرقابة
صلاح اللهبي (طبيب صيدلي) يقول: “إن انتعاش الأسواق بالأدوية الرديئة بسبب انعدام الأدوية ذات الجودة العالية وضعف القدرة الشرائية لدى المواطن بسبب الوضع الاقتصادي المتردّي، ومسؤولية وجودها في الأسواق لا يتحملها المستورد ولا الصيدلاني، وإنما هي مسؤولية الهيئة العليا للأدوية التي تمنح تراخيص بيع تلك الأدوية، وإن زيادة فارق السعر بين الدواء في بلد المنشأ وسعر المستورد يشجّع على زيادة تهريب الدواء، فعلى سبيل المثال عقار الـ Klamoks BID التركي سعره بحسب الوكيل يبلغ 3500 ريال يمني بينما في بلد المنشأ في تركيا لا يزيد سعره ما يعادل 750 ريال يمني، وهناك 16 ألفَ صنفٍ تجاري من هذا الدواء، وقس على ذلك، والسبب الرئيسي في تهريب الأدوية هو عدم الرقابة وجشع التجار.
مُراقبة سوق الدواء من اختصاص الهيئة العُليا للأدوية
يُبرّر مدير مكتب الصحة بمديريات الوادي والصحراء بمحافظة حضرموت الدكتور هاني العمودي ارتفاع الأسعار بارتفاع قيمة العملة المحلية قائلاً: “يعود السبب في ارتفاع أسعار الأدوية، وخاصة تلك المُستوردة، بسبب ارتفاع سعر الدولار في اليمن، في حين لا تزال رسوم العمليات والخدمات في القطاع الحكومي أقل بكثير من القطاع الخاص، ويذكر أنه توجد صيدليات مجانية في كل المستشفيات والمراكز والوحدات الصحية تقدم كل الأدوية مجانا والتي توفرها المنظمات الداعمة”. وحول عملية الرقابة يقول: “بالنسبة للرقابة على سوق الدواء، هي موجودة بكل تأكيد بموجب قوانين المنشأة الطبية الخاصة، وهي اختصاص الهيئة العليا للأدوية”.
مراقبة أسعار الأدوية في الصيدليات مسؤولية وزارة الصحة
ويحمّل مكتب وزارة الصحة المسؤولية في مراقبة أسعار الأدوية يالهيئة العليا للأدوية والمستلزمات الطبية ، وقد تواصل صوت المهمشين مع أحد مسؤولي الهيئة لمعرفة الجهة المعنية بالدور الرقابي، للحصول على توضيح حول ذلك. يقول رئيس قسم بنك المعلومات والإعلام الدوائي في الهيئة العليا للأدوية ومنسّق التيقظ والسلامة الدوائية في محافظة حضرموت د. أحمد صالح باوزير: “إن أسباب ارتفاع أسعار الأدوية هي زيادة أسعار الصرف وهبوط الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية، وزيادة عالمية في أسعار النقل والتعرفة الجُمركية، وزيادة الإتاوات على مركبات النقل داخل اليمن من النقاط الأمنية”، وعن دورهم الرقابي على الصيدليات يقول: “إن رقابة الصيدليات مسؤولية مكتب الصحة، وإن الهيئة دورها مراقبة المستوردين وأصحاب الجملة فقط، وتوجد تسعيرة لبيع الأدوية من المستورد للصيدلية وللجمهور عندما كان سعر صرف الدولار يساوي 215 ريالا يمنيا، ونظراً لتقلبات سعر الصرف اليومية لا يستطيع المستورد وضع تسعيرة محددة، وإنما يتم التسعير وفق سعر الصرف لنفس اليوم”. وحول تهريب الأدوية يقول باوزير: “يتمّ إدخال أدوية مهربة بطريقة غير شرعية نظرا للوضع الراهن في البلاد ووجود شريط ساحلي طويل يمتد من المهرة إلى الحديدة وضعف الإمكانيات لدى خفر السواحل”.
في عام 1999 صدر القرار الجمهوري رقم 231 بشأن إعادة تنظيم الهيئة العليا للأدوية والمستلزمات الطبية، وقد حدّدت المادة الرابعة مهامها واختصاصها؛ إذ نصّت الفقرة الثامنة تحديد وإصدار التسعيرة الدوائية ومراقبة تطبيقها واتخاذ الإجراءات القانونية عند المخالفة، وبالتالي يقع الدور الرقابي حول التسعيرة الدوائية من اختصاص الهيئة، ولا يزال المواطن اليمني في صراع شائك في مواجهة ظروف الحرب، وأعباء مُرهقة على عاتقه، في ظلّ انقسام وحصار خانق يعيشه بلد، تحكمه سُلطات ديدنها الشكوى من ضعف الإمكانيات والتنصل من المسؤولية.