“لو سمحت، ممكن تتصل لأخي يجي يخرجني من هانا. أنا بخير، ولا فيني حاجة” بهذه العبارة استقبلني جبر عبد الله، من أبناء مدينة زبيد محافظة الحديدة غرب اليمن، أحدُ النزلاء في مستشفى دار السلام للصحة النفسية بمدينة الحديدة. جبر عبد الله ينتمي إلى فئة تسمى “المُهمشين”، ويقبع في مستشفى دار السلام للصحة النفسية منذُ نحو شهرين؛ إذ يُعاني من اضطرابات نفسية وهلوسات وحالة اكتئاب، بحسب ما أخبرنا الطبيب المتابع لحالته.
ملاحظة الزائر
في بداية الحديث مع جبر عبد الله، يتبادر إلى ذهنك أنه بصحة جيدة، فكلامه موزون ومنطقي، لكن مع الاستمرار في الحديث معه، يبدأ بالتفوه بعبارات خارجة عن سياق الحديث وغير مفهومة. في مجمل الأمر، يبدو أنه بحاجة إلى بعض الاهتمام لينجو من المرض النفسي.
في أثناء تجوالنا في عنابر المرضى بقسم الرجال، هناك ما يلفت الانتباه ويثير الدهشة، ثمة مرضى مُقيّدون بسلاسل من حديد إلى شبابيك الغُرف، يفترشون البلاط بأجسادهم النحيلة التي أرهقتها الأدوية التي يتناولونها. يقول منصور حيدرة وهو أحد الحراس: “نقوم بتقييد المرضى الجدد؛ لأنهم يعتدون على زملائهم وعلى الأطباء، لمدة أربعة الى خمسة أيام حتى تستجيب أجسامهم للعلاج، بحسب توجيهات الطبيب المعالج للحالة”. وتلحظ أيضا وأنت تسير في ممرات المستشفى كثيرا من المرضى يرتدون ملابس متسخة يتجولوّن ذهاباً وإياباً هائمين على وجوههم في ممرات المستشفى وبين الغرف يتحدّثون إلى أنفسهم.
يبدو من حديث جبر عبد الله وغيره من المرضى أنه جيء بهم إلى المستشفى من دون رضى منهم. ويشير مدير المستشفى إلى أن أهالي المرضى يأتون بهم إلى المشفى أو المصحة قسراً للتخلص من مشاكلهم ومن الأعباء المترتبة عليهم.
ومن الملاحظ أيضا، أن المرضى لا يحظون بالرعاية الصحية المناسبة، وأن المستشفى يفتقر إلى البنية التحتية والإمكانيات اللازمة والمطلوبة لعلاجهم، وهكذا تتحوّل حالاتهم الصحية إلى سجن وعذاب نفسي وذهني مضاعف.
في أثناء جولتنا داخل المستشفى، لحظ مراسلنا أن أحد المرضى يقبع في غرفة مغلقة، ليس فيها سوى فرش وبلاط، وليس لها نوافذ ولا تصل إليها أشعة الشمس، وقد قيل للمراسل إن هذه هي طريقة التعامل مع المريض الذي تنتابه ظروف عصبية وتشنجات.
“رسوم المريض الواحد من 70 $ إلى 100$، ولكن مقابل ماذا؟”
يعيش المرضى ظروفا صعبة وحياة مملة في هذا المستشفى، ينامون على فُرُش متسخة، وتنبعث من غرفهم روائح كريهة، وغالباً ما يُقيّدون بسلاسل من حديد، خصوصا مَن يتصفون بسلوك عدائي تجاه زملائهم المرضى.
أفادت إدارة المستشفى وأهالي المرضى أن على المرضى أن يدفعوا رسوما مقابل علاجهم وسكنهم في المستشفى. يدفع المريض مبلغا يتراوح بين 40 ألف ريال و60 ألف ريال شهرياً، بحسب حالة وظروف المريض، أي ما يعادل 70$ إلى 100$ دولار شهرياً، بحسب سعر الصرف في صنعاء وقت كتابة التقرير.
يضيف مدير مستشفى دار السلام الدكتور عبد الكريم النجدي أن الصعوبات والعوائق التي تواجهها مستشفيات الصحة النفسية في اليمن تكمن في ندرة الأطباء والاختصاصيين النفسيين وشحة الأدوية، ومن جهة أخرى يخشون من الوصمة المجتمعية المرتبطة باللجوء إلى العلاج النفسي.
طبيب نفسي واحد لكل نصف مليون شخص
بحسب دراسة لوزارة الصحة اليمنية في مطلع عام 2021م، يبلغ عدد الأطباء النفسيين 59 طبيباً، ما يعني أن ثمة طبيبا نفسيا واحدا لكل نصف مليون شخص! أما متوسط عدد العاملين الصحيين المتخصصين في الصحة النفسية يُقدر بنحو 300 عامل، أي بمعدل متخصص واحد لكل مئة ألف نسمة.
وتضيف الدراسة أن عدد الأَسِرّة المخصصة للصحة النفسية في اليمن لا تتجاوز 990 سريراً، فيما تُشير الدراسة إلى أن إجمالي عدد المستشفيات المتخصصة في الصحة النفسية العامة والخاصة سبعة مستشفيات، أي بمعدل مستشفى واحد لكل 4.25 ملايين يمني.
في اليمن، لا تتوقف تداعيات الحرب عند سقوط كثير من الضحايا قتلى وجرحى، بل تتجاوز ذلك إلى إصابة كثير من الناس باضطرابات وأمراض نفسية حادة وفادحة. وإن تدهور الوضع الإنساني والاقتصادي بشكل كبير في البلاد، وازدياد عدد النازحين، وفقدان كثير لوظائفهم ومصادر دخلهم، واستمرار انقطاع المرتبات، كل هذه التداعيات أصابت كثيرا من اليمنيين، وخصوصاً المهمشين والنازحين، بأزمات وأمراض نفسية.
يواجه المرضى النفسيون الأكثر ضعفاً، مثل المهمشين والنازحين، صعوبة بالغة في الوصول إلى مستشفيات الأمراض النفسية أو إلى مراكز الدعم النفسي التي تقدمها المنظمات، في ظل انعدام الخدمات الصحية والفقر والبطالة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية.
ويُعدّ مستشفى دار السلام للصحة النفسية في مدينة الحديدة واحدا من أكبر المستشفيات المتخصصة في الصحة النفسية في اليمن؛ إذ يوجد داخل المستشفى مصحة نفسية خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء.
يقول مدير المستشفى الدكتور عبد الكريم النجدي إن إجمالي عدد المرضى بقسم الرجال نحو 198 مريضًا، وإن عدد المرضى بقسم النساء نحو 45 مريضة، وهذا العدد قابل للزيادة والنقصان، إذ يخرج مرضى ويأتي آخرون.
( أنتجت هذه المادة بدعم من منظمة “lnternews” ضمن مشروع “Rooted in trust” في اليمن)