دفُنت كثير من المواهب اليمنية ولم تطفُ على السطح، إما بسبب إهمال ذويها وعدم تمكنهم من تطويرها، وإما لعدم تشجيع المجتمع لهم، ويكون ذلك أحيانا بفعل التمييز العنصري ضد أصحاب تلك المواهب، وهذا هو حاصل مع شاعر من فئة المهمشين “سليمان طَنَم” الذي يتمتع بموهبة شعرية فريدة ظلت حبيسة منزله طوال 30 عامًا.
سليمان طَنَم (47 عامًا) يعيش في مدينة تعز بمنطقة بير باشا مع زوجته وأطفاله الستة في كوخٍ مبنيّ من البلاستك والأخشاب، ويمتلك موهبة في كتابة الشعر الشعبي، لكنه لم يحصل على بيئة تحتضن موهبته أو تقدّم له الدعم ليتمكن من نشر شعره للناس، ويعمل حاليًا في حياكة الأحذية، ويتقاضى منها مبلغا زهيدا يُبقيه على قيد الحياة بما يوفر له قوت يومه لا غير.
البداية والنشأة
سكن سليمان طَنَم في مديرية جبل رأس بمحافظة الحديدة منذ ولادته، ثم رحل مع والدته إلى منطقة البرح غرب تعز في 1990، وبدأ الاهتمام بالشعر ومجالسة كثير من الشعراء، ولم تكن لديه معرفة كبيرة بقضايا الوزن والقافية، لكنه بدأ محاولاته بالشعر الشعبي باللهجة التهامية، واستمر فيه إلى أن كتب ديوانًا كاملًا، ثم بعد سنوات انتقل للسكن إلى مدينة تعز وتزوج فيها، كما يحكي.
ويضيف: “بعد أن بدأت أقرأ قصائدي على الناس، كان الشاعر محمد غالب الشميري يشجّعني على الاستمرار في الشعر، وينصحني في البدء بكتابة الشعر العمودي أيضًا”.
في مطلع أول قصيدة شعرية له، يقول وهو يعبر عن حالة التعب والبؤس الذي كان يعيشه وقتذاك:
“الله يعلم بمَن هوى خلّي لكنني بَصبُر على الذي مكتوب
بَصبُر بَصبُر والهمّ بايفرج، قبلي تحمّل على بلوته أيوب
واللي مُقدَّر لا بد ما خوضه، ولا بد ما ربي يحقق المطلوب
قبلي زُليخا الحب عذّبها، وبعد يوسف كم بكى أيوب
وأنا معذّب يا صاحبي بعدك حرام تهجر القلب وام مَحبوب
الهجر أسبوع ولو طال عشر أيام، ولو زاد عن حده، يتعب المتعُوب”.
“لا مأوى للوجه الأسود!”
انتقل طَنَم إلى تعز في 1995، واستمر في الشعر، وبدأ في التواصل ومراسلة صحيفة الجمهورية وقتذاك، وكان يقوم بإرسال قصائده أسبوعيًا، فتنشرها الصحيفة في عددها اليومي، وفي أحد الأيام ذهب إلى إدارة الصحيفة طالبا منهم أن يخصصوا له زاويةً للنشر في المجلة أو الملحق الثقافي الذي يصدر أسبوعيًا يوم الخميس، لكنهم رفضوا طلبه بحجّة أن المجلة فيها كُتاب ومثقفون وشعراء كُثر ومشهورون أيضًا، وليس متاحا له المشاركة فيها.
رفضُ صحيفة الجمهورية لطلب طَنَم في المشاركة في الملحق الثقافي، كان صادمًا له ومحبطًا في الوقت نفسه؛ إذ، كما يصف، جعله يشعر بالانتقاص لأنه شاعرٌ مهمشٌ، وأنه لا يليق به المشاركة إلى جانب شعراء كبار مشهورين، ودفعه ذلك إلى كتابة قصيدة “همسات في قلب المعبد” يعبر فيها عن بؤس واقعه ويصف فيها ألمه وحزنه عتابًا ومناجاة.
ويضيف: “بعد أن رفضوا طلبي في المشاركة بالمجلة خرجتُ من مقر الصحيفة مباشرة، وحضرني الهاجس وقمت في كتابة القصيدة التي تقول بعض أبياتها:
وهنا في المعبد عصفورٌ
في روضٍ يبحث عن مرقد
أغصانٌ تملؤها الأعشاش
طردوه فقالوا: لا يوجد
لا عشب لا ماء فذهب
لا مأوى للوجه الأسود”.
“غُنج طَنَم”
حينما اندلعت الحرب في البلاد مطلع 2015 وشملت مدينة تعز تحديدًا المنطقة التي كان يعيش فيها طَنَم وأسرته، أُجبر على النزوح إلى مديرية حيس جنوب الحديدة تاركًا منزله ودواوينه الشعرية التي كان قد كتب فيها كثيرا من القصائد الشعرية والقصص الأدبية، لكن دواوينه الثلاثة احترقت جميعها بفعل قذيفة سقطت على المنزل، وهو في الأصل لم يتمكن من طباعة تلك الدواوين من قبل، ولا الدواوين الحالية نتيجةً لظروفه المادية الصعبة. يشرح ذلك قائلا: “لا أستطيع طباعة دواويني؛ لأنني أعمل في حياكة الأحذية، وأوفر منها قوت أطفالي بصعوبة، لذا أقوم بكتابة الشعر على دفاتر عادية وأحتفظ بها”.
في أحد الأيام التقى بعض الشباب النشطاء بالشاعر طَنَم وهو في مكان عمله في أحد أسواق منطقة بير باشا بتعز، في أثناء قيامها بحياكة الأحذية، وعلى هامش حديثهم معه عرفوا أنه شاعر يعاني من الإهمال والتهميش، ولا يعلم الناس موهبته، فقاموا بنشر قصته على مواقع التواصل إلى جانب تواصلهم مع مكتب الثقافة بتعز، وعمل المكتب بعد ذلك على تكريم طَنَم وطباعة أول ديوان له باسم “غُنج طَنَم”، وقد نُشر ضمن إصدارات مكتب الثقافة في معرض الكتاب الثالث بتعز نهاية العام الماضي.
ويرى رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بمدينة تعز، الشاعر نبيل الحكيمي، أن موهبة سليمان طَنَم في الشعر فطرية، وقد أخذ يكتب الشعر الشعبي على السجية باللهجة العامية، وأنه يكتب ما تجود به موهبته بالشعر بلغة سهلة وبسيطة، لكنه عانى وما زال يعاني التهميش والإهمال لأن الدولة مع الأسف لا تهتم بهذه المواهب.
ويوضح الحكيمي في حديثه لصوت المهمشين أنه عندما علم بموهبة الشاعر طَنَم، وتبنّي مكتب الثقافة في تعز طباعة ديوانه “غُنج طَنَم”، بادر إلى الموافقة على مراجعة ديوانه وترتيبه بشكل طوعي؛ لأنه يستحق التشجيع وإظهار موهبته للناس جميعًا. وأشار الحكيمي أيضا إلى أنه عند تفعيل الاتحاد مستقبلا، سيعمل على تقديم استمارة عضوية للشاعر طَنَم لأن موهبته طابقت جميع الشروط، ولديه دواوين شعرية كذلك، لافتًا إلى أنهم يفخرون ويتشرفون بمنح الشاعر العضوية التي يستحقها بجدارة.
التمييز يدفِن المواهب
على الرغم من القصائد الشعرية العظيمة والعدد الكبير للدواوين الشعرية لسليمان طَنَم، لم يقف المجتمع معه ومارس عليه التهميش، ينطبق ذلك الأمر نفسه على الجهات المختصة والمهتمة بالشعر والأدب والثقافة الرسمي منها وغير الرسمي، وظل شعرُ طَنَم مدفونا طوال 30 عامًا من كتابة الشعر.
يواصل طَنَم حديثه لصوت المهمشين: “الدولة والمجتمع لا يهتمون بالمواهب والمبدعين، خصوصا إذا كانوا مثلي من المهمشين. يمارسون التمييز والعنصرية حتى في الموهبة، ولن يعطوك قيمة مهما كنتَ ماهرًا في الشعر، ومن المؤسف أن يحدث هذا في مدينة الثقافة تعز”.
أخذ سليمان طَنَم في كتابة الشعر وحمل هموم ومعاناة أبناء جلدته من إقصاء وتهميش المجتمع والدولة، وجعل من الشعر حروفًا وأبياتًا تجسّد حال المهمشين في اليمن. يقول في إحدى قصائده الشعرية:
“لا تحلم دومًا يا أسود للعليا في يومٍ تصعد
أن تصبح يومًا مسؤولاً عضويًا في ذاك المقعد
أو تصبح حتى دكتورًا أو حتى منصب تتقلد
أو حتى مالاً لا يحصى لبطون الجوعى تتفقّد
لن تحيا إلا منبوذًا منفيًا من قلب المعبد
لن تحيا إلا خدّامًا في قومٍ فيهم تُستعبد
لن تحيا إلا في وطنٍ لا يرحم جوعى لا يحمى شعبًا يتشرد