نجاح الأم وقسوة الأقارب

نجاح (33 عامًا) والدةٌ لثلاثة أبناء، وُلد الأصغر بكليةٍ واحدة، عُمْرُ أكبرهم 9 أعوام، أما أصغرهم فلم يُكمل الـ3 سنوات حين طردها زوجها من منزله في زمن رضاعته، وذلك بعد عِشرةٍ دامت 10 سنوات مع زوجها في إب. في أسرة مهمشة متوسطة الدخل، قرّر الأب الاستغناء عن طفلٍ لا يملك إلا كليةً واحدة، وعارضته الأم لتحتفظ بالطفل، وتبدأ بعدها حياةً أخرى ليست في حسبان نجاح، كلّ رفاقِها طفلُها رامي كما أسمته.

نقطة البدء

تقول نجاح (اسم مستعار حسب طلبها) لصوت المهمشين: “تزوّجت هروبا من زوجة أبي التي لم أجد معها يومًا طيبًا، وخلّفت طفلًا وطفلة، كما صبرتُ خلال 9 سنوات على الأزمات المعيشية التي عانت منها أسرتي الصغيرة، فقد كنتُ أعمل جوار زوجي بالأعمال اليدوية لأغطي ولو جزءًا من مصاريف الأطفال”.

وفي ظهيرة الثامن من يونيو 2019 تأكّدت نجاح مِن حملها، وقد فرح زوجها كثيرًا، وكانت الطفلة المتوسطة ذات الستة الأعوام، لكن عند اقتراب موعد الولادة أفاد الطبيب المعالج بأن الجنين يعاني تشوّهًا خلقيًا، وهو أنه يفتقد الكلية اليمنى.

تشرح نجاح وقع الصدمة على زوجها بأنه صرخ وتعصّب في المنزل كثيرًا، وأمرها بإجهاضه، وكانت قد أكملت الشهر الثامن من حملها، لكنها رفضت ذلك باعتباره من قتل النفس التي حرمها الله، وتحكي نجاح لمراسلتنا أن زوجها حاول من دون عملها وضع مواد مجهضة للجنين في طعامها؛ ونتيجة لذلك نزفت قبل الولادة بكثرة، لكنه رغم ذلك خُلق سليما.

لنرمِ الطفل

بعد ولادة نجاح أتاها زوجها للمشفى محذّرًا منذرًا، وأنه سيمنعها من دخول منزله بصحبة الطفل. تتذكر نجاح ما حدث حينها قائلةً: “لم يرحم دموعي وتوسلاتي، وكان مصرّا جدًا أن أضع الطفل في باب أي جامع ثم أهرب وكأنه ابن حرام. لم يطاوعني قلبي على رميه أبدًا، وعدتُ مع زوجة أبي لمنزلي، وحينها رمى يمين الطلاق عليّ أمام والدتي والجيران وطردني، ثم هرّب طفلينا الكبيرين، ولا أعلم عنهما شيئًا حتى اليوم”.

تكمل حديثها: “عدتُ إلى خالتي وأبي مكسورة الجناح، ومتعبة من آثار الولادة، وفي المقابل وبّختني خالتي جدًا، وضاقت الحياة أمام عيني. أما والدي فقد سافر للغربة في المملكة العربية السعودية، ولم يدرِ بما يحدث لي من زوجته”.

بعد سفر والد نجاح بأسبوع واحد، طردت الخالة ابنته، وقد قرّرت طردها في منتصف الليل كيلا يعلم الجيران بفعلتها تلك، فخرجت نجاح قرابة الحادية عشر من مساء الـ17 من سبتمبر 2019.

وخلال جلوس نجاح في شارع الدائري برفقة الطفل باكيةً مرّ من جوارها رجل ليسألها عن حالها، حكت له نجاح بعض تفاصيل قصتها، فأخذها لتنام في منزل عائلته مؤقتًا؛ لأن المكان كان محاطًا بالكلاب الضالة.

حياة جديدة

وجدت نجاح مكانًا للعيش مع عائلةٍ في إحدى شوارع محافظة إب، وخلال أقل من أسبوع بحثت عن غرفة صغيرة مستقلة لها وطفلها الوليد، ثم بحثت عن عمل تحصل به على لقمة عيشها.

تقول نجاح: “ما أعاقني هو أني لستُ متعلمة، لكنني مع ذلك عملتُ عاملة نظافة في عدة مستشفيات ودوائر حكومية، وكنتُ خلال فترة غيابي أترك طفلي مع جارةٍ لي بمقابل مادي”، ولم تستسلم نجاح للظروف ولا لقسوة الأقارب، أمومتها كانت الدافع الأعظم لها كي تستمر بالعيش والنضال أمام من تخلّوا عنها في أسوأ حالاتها.

تشير اختصاصية علم النفس مروى محمد إلى تلك القوة الروحية التي تتمتع بها الأم، وأن الشعور بالمسؤولية الناتجة عن مشاعر الأمومة قادرة على خلق امرأة جديدة قوية تهزم الصعاب في سبيل راحة طفلها وأمانه، كما تتحدث عن الأمومة بوصفها أسمى وظيفة للمرأة، وهي تفخرُ بموقف نجاح المشرف وتضحياتها الكبيرة لأجل قيامها بدورها الأمومي الرحيم على أكمل وجه، وتوجّه مروى رسالتها لنجاح بأن ما حدث غيمة حزن عابرة ستنجلي عما قريب إذا قاومت، وتمتعت بالثقة، وآمنت بموقفها الصائب وبأهمية رعاية الطفل مهما كانت حالته.

في السياق نفسه، تقول نجاح: “أمنيتي اليوم أن أرى طفلي وطفلتي اللذين أخذهما مني طليقي عنوة، وهاجر معهما نحو مدينة أخرى، وقد بحثتُ عنهما حتى تعبت، لكني لن أيأس ومصيرهم جميعًا بين أحضاني”.

كفاح من أجل البقاء

قررنا النزول نحو أحد مشافي مدينة إب لنتأكد من عمل نجاح، ووجدنا الكادر الإداري والطبي لمستشفى “أطباء المنار” يشيدون بتفانيها في عملها، كما صادفنا إحدى جاراتها في منزل والدها بمنطقة السحول في إب، وهي إحدى الممرضات في المستشفى نفسه، وقد أيدت الممرضة (طلبت عدم ذكر اسمها) كلّ ما قالته نجاح في حكايتها، وهي تشهد على الحالة الطبية للطفل رامي، وتفيد أنه من الممكن له أن يحيا بشكل طبيعي، بشرط الاهتمام بالماء النظيف وممارسة الرياضة.

وتقول دكتورة المسالك البولية دعاء عبد الله لصوت المهمشين: “إن هذه الحالات ليست نادرة، وليست مقلقة أيضًا إذا توفر الوعي المحافظ على سلامة الكلية الواحدة في جسم الإنسان”، وتشير الدكتورة دعاء بأن كثيرين جدًا يعيشون حياة طبيعية بكلية واحدة مثل المصابين بالفشل الكلوي، والمستزرعين للكلى، والمتبرعين بها، والبائعين لها.

وبدورها تعاونت أ. ميثاق حسن مديرة إحدى المدارس الأهلية في إب مع نجاح بمنحها وظيفة، كما قرّرت أن يحظى رامي بمقعد دراسي مجاني في المدرسة حتى تخرجه من الثانوية، وذلك عند وصوله إلى سنّ الدراسة.

المقالة التالية
رحلة المهمّشات في جمع الحطب… معاناة ابتهال أنموذجا
المقالة السابقة
عبير.. شابةٌ مهمّشة أحبّت التعليم وقهرت في سبيله كلّ الصعاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

مقالات مشابهة :

الأكثر قراءه

━━━━━━━━━

كتابات

━━━━━━━━━