شبوة – بينما كانت تُدير أعمالها بمركزها التدريبي والتأهيلي كعادتها، عند الرابعة من مساء شهر سبتمبر / أيلول 2021م، بين جمع من النسوة والفتيات في إحدى جلساتها التدريبية، التقيناها لتسردَ لنا حكاية فتاة قاومت تقاليد المُجتمع المُقيّدة وعاداته المُكبلة، لتمضي نحو المعرفة والتعلّم وتصبح إحدى كوادر التربية والتعليم في المحافظة. إنها المُعلّمة جميلة حسن سالم (40 عاماً) إحدى “المُهمّشات” من محافظة شبوة جنوب اليمن، تحكي قصتها لـ”صوت المهمشين”، وكيف قاومت قيود المُجتمع للمرأة، واتخذت حبل التعليم؛ لتصبح ذات مكانة اجتماعية عالية.
بدأت جميلة تعليمها الأساسي والثانوي في مدارس للبنين في مدينة عَزّان. التحقت بالسلك الوظيفي بالتربية “معلمة” مطلع عام 2000م، لتستمرّ في العمل التربوي لسبع سنوات، والتحقت بكلية التربية قسم كيمياء حتى عام 2013م.
تعليمُ الفتاة عيب أسود
وجدت جميلة نفسها وحيدة بين أوساط البنين في مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي، فكانت أصعب المراحل التي ابتدأت بها مسيرتها العلمية، في حين تلقّت تشجيعاً من والديها لمواصلة تعليمها، إلا أنها في الوقت نفسه واجهت أنواعا من النقد والتعصّب، لأنها الفتاة الوحيدة، إضافة إلى أنها تنتمي إلى فئة مهمشة، خصوصا أن الفتيات في تلك المرحلة كُنّ يُمنعن من مواصلة تعليمهن بعد الصف السادس في مجتمع قبلي تحكمه العادات والتقاليد ، إلا أنها وقفت أمام تلك العادات رافضة لتقييد حق الفتاة في التعلّم، ولنظرة المجتمع إلى فتاة تدرس في فصول دراسية مع طلاب جميعهم من الذكور، فازدادت إصراراً وقويت عزيمتها أمام تلك النظرات القاصرة الموجهة نحوها والألفاظ النابية المحيطة بمسامعها.
تقول جميلة: “كنتُ أعود إلى منزلي محبطة حزينة، جراء ما ألاقيه من انتقادات جارحة وألفاظ مؤلمة، لدرجة أنه كانت تساورني الرغبة في الإحجام عن مواصلة تعليمي. كنتُ أعبّر عن ذلك الوجع والكمد المكنون بداخلي بدمعات تنهمر وتتساقط من عيني، كنت أجدها وسيلة ناجعة للتخفيف عما أجده بباطني. حينها أجد نفسي أتحسّس لمسات كفّي والدتي وعبير كلمات والدي تلملم جراحاتي وشتات أفكاري، فتهون آلام مشاعري، وتطيب النفس، ويعود الأمل من جديد. هكذا عشت سنين تعليمي”.
القيادة نحو تعليم الفتاة
انهت جميلة تعليمها الثانوي، لتلتحق بالسلك الوظيفي، فكانت دافعا قوياً وحافزا كبيراً لمن حولها، لدفع الفتيات وتشجيعهن لمواصلة تعليمهن، في تحدٍّ معلَن لتلك الأعراف والتقاليد التي استساغها الآباء والمجتمع.
تقول جميلة: “استطعت إقناع نحو (15) فتاة لمواصلة التعليم إلى الصف التاسع من المرحلة الأساسية، حينها وجدتُ نفسي أمام منعطفات أشدّ مرارة، حيث لا توجد مرحلة تعليمية ثانوية للبنات، ففتحت خط تواصل وتنسيق مع إدارة التربية والتعليم بالمديرية في إقناعهم بأهمية تفعيل المرحلة الثانوية، وقلت لهم: أنا على استعداد على تدريس جميع المواد الدراسية كي لا يكون لديهم حُجة، وحصلنا على الموافقة، واعتمدوا فقط الصف الأول الثانوي للبنات”، وتضيف: “واجهتْ هذه الخطوة فرحة عارمة بين الفتيات اللاتي كان عددهن (15) طالبة، وباشرت مهنتي واستوعبت كافة الموادّ المقررة بمفردي، حتى أكملت العام بنجاح منقطع النظير”.
في تلك الفترة مُنحت جميلة وسام “المعلمة المتميزة بمحافظة شبوة” بحفل تكريم أقيم برعاية السلطة المحلية بالمحافظة، وعُيّنت وكيلة للمدرسة، واعتُمد الفصل الثاني الثانوي بعد رفد المدرسة بالمُعلمات.
دور الأسرة
عندما سألناها عن دور أسرتها في مسيرة نجاحها، توقفت جميلة، وأخذت نفسا عميقا، وانهارت عيناها بالدموع، مترحّمة على روح والدها الذي طالما كان الدافع الكبير لنجاحها وتفوقها، فلم نقوَ على المتابعة لبرهة من الزمن، فساد الجو هدوء وصمت مطبق. ناولناها قنينة الماء، وبروح الفُكاهة سألناها: أين دور أمك إذن؟ هنا ظهر على ملامح وجهها الابتهاج والانبساط لتُجيب: “أمي غذاء روحي، فلا طعم للحياة بدونها، لقد كانت لمسات كفيها بلسما لجراحاتي، فأستطبّ بهما من مواجع الحياة وقسوتها وما زلت أستمد قواي بعد الله من تلك الأكف الحانية”.
أسهبت جميلة في وصف أمها، قائلة: “أمي هي الإنسانة التي أعيش معها مرحلة الطفولة رغم شبابي. لا أحتمل غيابها ولا أستسيغ بعادها. هي منبع الحنان ومنتهى اللطف، هي …”. انقطع صوتها، وساد الوصف عبراتها، فاغرورقت عيناها بالدموع، بعد أن نكّست رأسها نحو الأرض.
تحدثت “أم جميلة” الحاجّة “سلامة علي” قائلة: “ابنتي هي نور عيني وفلذة كبدي. هي سعادتي وفرحي. هي سندي وعدتي. كانت طموحة منذ صغرها ذكية ملهمة متميزة. لازمتها دعواتي وحففتها ببركاتي، فلمست الإجابة الربانية في نجاحاتها وتقدمها. أسعدها ربي وأرشدها”.
ويُضيف شقيقها مُحسن ليقول: “إن أختي ذات طموح عال. تميزّت بذكاء وفطنة منذ نشأتها، فغذت تلك الرغبات والأمنيات لتبلغ معالي القمم وقد بلغتها. هي مصدر فخر الأسرة وعزّها”.
الناس سواسية عند الله
تقول جميلة: “عندما ذهبتُ لأداء مناسك الحجّ عام 1437ه، وصلتُ بوابة الحرم فوجّهت ناظري نحو الكعبة المشرفة، فأبهرني المشهد، حين رأيت الناس يطوفون ببيت الله الحرام، متساوين في الملبس والتضرّع إلى الله. مشهد بعيد كلّ البعد عن العنصرية والتمييز. شدّني بكاء الناس شوقا وحنينا وتضرعا وخشوعا. حينها اقشعر جلدي وانتفض جسدي انتفاض الطير المبلل وتحرّكت مشاعري. بكيت بكاء الأطفال وتذلّلت تذلل الخانعين. لحظات أوقفتني مع ذاتي واعترافي بتقصيري في حقّ ربي بقلب حاضر. تمتمت بدعوات دعوتُ بها سيدي ومولاي، بأن يهيأ لي أن أكون داعية إليه، وظنّي بخالق لا يحابي، إجابة دعوتي، فله الحمد أولا وآخرا، ظاهراً وباطناً، دائما وأبدا”.
جميلة قصة نجاح امرأة ارتقت بعزيمتها ووصلت بإصرارها، مع كل ما تملكه من مقومات النجاح وسبل الكفاءة، لتصبح امرأة قيادية لها أثرها وخطاها محفورة في ذاكرة كل فتاة مُتعلمة، تُدير الآن إدارة مركز محو الأمية بمديرية “مَيفعة” مشرفةً وموجّهةً لمراكز محو الأمية بمركزي “عَزّان وحَفسة”، ويتعلم في تلك المراكز (189) فتاة وامرأة، جميعهن يخضعن لمجالات تدريبية وتأهيلية متنوعة.