“المهمشون في الأرض”… تتعدد الوجوه والمأساة واحدة

أمينة خيري صحافية

من هم المهمشون؟ عربياً… من هم؟ فقراء، محرومون من حرية التعبير، لا دور لهم في الحياة الخاصة أو العامة؟ يعملون في مهن بعينها يعتبرها المجتمع “دونية”؟ لاجئون؟ هل ينتمون لعقائد لا تنتمي إليها الغالبية؟ لون؟ عرق؟ وهل غيرت الإنترنت والـ”سوشيال ميديا” من تعريفهم وإحساسهم بأنفسهم؟

على هامش الأمر يعني خارجاً عنه أو في معزل عنه. والهامش الداخلي هو المساحة الفراغ بين صفحتين. وعلى هامش الأخبار أي تعليقاً على ما ورد فيها. وعلى هامش الحدث أي لمناسبته. وحين يقال إن فلاناً يعيش على الهامش، فإن ذلك يعني أنه يعيش منفرداً أو منعزلاً أو غير مندمج في المجتمع.

المهمشون في المعجم

لكن هذا التعريف المعجمي لمن يعيش على الهامش يغفل تلك الملايين المنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها ممن يعيشون على الهامش، لكنهم في غاية الاندماج مع مجتمعهم الهامشي ومهنهم الهامشية ومشكلاتهم الهامشية وماهية تفاصيل حياتهم الصغيرة والكبيرة الغارقة في الهامشية. اللافت أن عدداً من المهمشين ممن يعيشون في تجمعات مهمشة يعتادون التهميش ويعتبرونه أسلوب حياة، سواء لعدم معرفتهم بوجود أساليب أخرى أو لأن شعوراً ما بالانتماء يعتريهم، لأن كل من حولهم مهمش مثلهم.

وعلى رغم أن بعضهم يحاول أن يفرق بين الشخص الهامشي والشخص المهمش، في محاولة لتحميل الشخص مغبة هامشيته، إلا أن النتيجة واحدة. الملايين من البشر مهمشون. إنهم المهمشون في الأرض.

إنهم كثيرون ومختلفون ومنتشرون في كل مكان من دون سمات محددة لهم، أو تعريفات متفق عليها، أو مواصفات يمكن تقصيها لمعرفة أماكن وجودهم أو حتى الكيفية التي يصبح من خلالها الشخص مهمشاً.

كيف تصبح مهمشاً؟

يعرف “يو كي دايركت” (صندوق ممول من مكتب دول الكومنولث والتنمية في بريطانيا لمصلحة مؤسسات أهلية صغيرة ومتوسطة) التهميش بأنه عملية مستمرة تحول دون مشاركة الشخص في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هذه الحواجز تعمل على ضمان استمرار الشخص أو مجموعة الأشخاص مهمشين. وأسباب التهميش كثيرة، إذ تتراوح بين تلك المتعلقة بالعرق أو الدين أو النزوح أو الصراع أو الإعاقة أو الجغرافيا أو العمر أو التوجه الجنسي أو السياسي. وعلى رغم ذلك، فإن المهمشين لا يقفون جميعاً في الخندق نفسه ولا يتعامل معهم صانعو السياسات على أنهم كتلة واحدة. فحتى التهميش له درجات وفئات وطبقات.

التهميش السياسي مثلاً قد يطال أشخاصاً ينتمون إلى أصول عرقية أو دينية أو مهاجرين أو لاجئين. والتهميش الاقتصادي يحول دون مشاركة حقيقية لأشخاص بسبب الجنس أو اللون أو الدين. والتهميش في التعليم يمنع أشخاصاً بأعينهم من فرصة التعليم. وقد يكون ذلك بسبب الجنس أو العرق أو الإعاقة، وهلم جرا.

ويظن بعضهم أن التهميش ظاهرة حديثة أو نتيجة للمدنية الحديثة التي لا تتوقف كثيراً عند حاجات أو مشكلات الفئات الأضعف أو الأكثر احتياجاً أو الواقعة تحت ظلم أو تمييز. لكن التهميش ظاهرة مرتبطة ببدء تكون المجتمعات منذ فجر التاريخ.

شعبية “همش”

عربياً، تعد الكلمات المشتقة من “همش” من أكثر الكلمات استخداماً وشعبية واستغلالاً لأسباب سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية من قبل الجميع. المراهقون يشكون من كونهم مهمشين في محيط أسرهم ومجتمعاتهم الصغيرة. العاطلون من العمل، الإناث، ذوو الاحتياجات الخاصة، المنتمون إلى معتقدات أو أعراق أو ألوان تختلف عن الغالبية، أصحاب الأفكار المختلفة عن التيار السائد، مهمشون. وربما يكونون مهمشين فعلاً، وأحياناً تكون وضعية التهميش من صنع صاحبها واختياره. ويلمح بعضهم إلى أن تصنيف الشخص لنفسه بأنه “مهمش” يمنحه “منطقة راحة وأمان تعفيه من المساءلة أو المسؤولية أو الاتهام بالتقاعس”.

وبحسب دراسة أعدها الحقوقي الراحل محسن عوض لـ”المنظمة العربية لحقوق الإنسان” عنوانها “قضايا التهميش والوصول إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية: نحو مقاربات جديدة لمكافحة التهميش في العالم العربي” (2012)، فإن التهميش هو واقع اجتماعي واقتصادي لمن يعيشون خارج الأطر الاجتماعية التقليدية. وعلى رغم أن ممارسات إقصاء أشخاص وجماعات بأعينهم تعود إلى فجر التاريخ، إلا أن المصطلح نفسه لم يبرز إلا على خلفية الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي.

وتشير الدراسة إلى أن استخدام المصطلح شاع مع صدور وانتشار كتاب “ضحايا الإقصاء” للسياسي الفرنسي الراحل رينيه لنوار الذي ينسب إليه وضع المفهوم الحديث للإقصاء الاجتماعي في فرنسا. وثق لنوار في كتابه وجود فئة من الفرنسيين تعيش في ظروف اقتصادية واجتماعية تختلف تماماً عن غيرها من الفرنسيين، لا سيما مع عجز الاقتصاد الفرنسي حينئذ عن توفير مقومات الاندماج التي تتيح لها الخروج من حيز التهميش.

وتشير الدراسة كذلك إلى توجه عام في العالم طغى في الثمانينيات لربط التهميش بالفقر، وهو التوجه “المريح” للحكومات وواضعي السياسات إذ يحصر مشكلات التهميش والمهمشين بالفقر، وكأنها ناتجة من ضيق ذات اليد فقط.

لكن واقع الحال يشير إلى أن الشخص لا يولد هامشياً، بل يتم تهميشه بمعنى تعرضه للاستغلال الاقتصادي أو القمع السياسي أو الوصم الاجتماعي أو الاستبعاد الثقافي أو المعاناة من نظام اجتماعي مغلق.

وفي العقود الخمسة الماضية، ومع انتشار فكرة التهميش والمهمشين في الدول العربية، توسعت استخدامات المصطلح وبات يحلو لبعضهم تصنيف بعضهم الآخر بأنه “مهمش”. وتجدر التفرقة بين من اختار أن يكون مهمشاً سواء بقرار الابتعاد الإرادي لضعف القدرات والطموحات الشخصية، وكذلك من اختار التهميش لأنه يوفر أجواء تساعده في الإبداع الفكري أو الفني أو لمجرد أن شعوره بأنه مهمش يمنحه إحساساً بأنه “مختلف” من جهة، وبين المهمشين قسرياً.

التهميش القسري

التهميش القسري موجود بوفرة في المنطقة العربية. ورصد عوض في دراسته المستفيضة أنواعاً وفئات عدة من المهمشين العرب. أبرز هؤلاء هم الفئات الضعيفة من المواطنين والفئات الضعيفة من غير المواطنين، سواء كانوا من “البدون (من لا يحملون جنسية)، أو لاجئين ونازحين وذوي الاحتياجات الخاصة ومصابين بأمراض بعينها. وأبرز المهمشين عربياً هم، الفقراء في الريف والمدن والنساء بشكل عام والشباب وفئات من الأطفال مثل الأيتام وبلا مأوى والمولودين خارج إطار الزواج والعاملين. وهناك التهميش الناجم عن اختلاف العرق و”البدون” إلى جانب اللاجئين والنازحين والأقليات الدينية والإثنية وأحياناً المنتمين إلى المعتقد نفسه ولكن بشكل أو مظهر يختلف عن المفروض من قبل محتكري التفسير الديني وحاملي صكوك الإيمان والالتزام.

التهميش عملية مستمرة

ولأن التهميش عملية مستمرة، فالمهمشون في حال تغير مستمرة كذلك. تقرير التنمية الاجتماعية الثالث الصادر عن منظمة “إسكوا” (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة) عام 2020، أتى بتعريفات أكثر اتساعاً وفئات جديدة إلى عالم التهميش العربي. تحت عنوان “عدم إهمال أحد: إدماج الفئات المهمشة في بعض البلدان العربية”، تم التعامل مع التهميش في ثلاث دراسات في كل من مصر وتونس ولبنان باعتباره الوجه الآخر للعدالة والإدماج الاجتماعي.

وعلى رغم حدوث تغيرات عدة في الدول الثلاث على مدى العامين الماضيين، لا سيما في مصر حيث تم القضاء على معظم العشوائيات التي كان يسكنها نحو 22 مليون مواطن ونقل السكان إلى تجمعات سكنية جديدة، إلا أن الجوانب المتعلقة بالتهميش ما زالت في الأجواء. كما أن مفهوم التهميش ما زال يخضع لتغيرات و”المهمشون” أنفسهم في حال حراك.

“الحراك” الذي شهده عدد من الدول في المنطقة العربية عام 2011، سلط الضوء على التهميش العربي. وعلى رغم اختلاف المسميات بين “ثورة” و”مؤامرة” و”ربيع” و”خريف”، إلا أن الأحداث وضعت مهمشي العالم العربي تحت الضوء. ضوء البحث يعيد التعريف. وضوء الاهتمام يقلب الموازين. حتى ضوء رؤية الشخص لنفسه باعتباره مهمشاً أو غير مهمش قيد المراجعة.

تقرير “إسكوا” يشير إلى أنه على رغم كثرة النقاشات في الأوساط السياسية والإعلامية والأكاديمية على مدى أعوام ما بعد 2011، إلا أن الواقع الاجتماعي لملايين المواطنين العرب لم يتغير كثيراً وأن الغالبية تعاني حالات التهميش والإقصاء المتزايدة. ويلفت التقرير إلى أن “محاولات العبور إلى الديمقراطية في عدد من الدول العربية ومنها سوريا وليبيا تحولت إلى كابوس مرير حصد آلاف الضحايا، وأن إمكانية إنهاء هذه الصراعات أصبحت أكثر صعوبة. الأزمة السورية شردت الملايين، وليبيا لا تزال تتخبط في صراعات داخلية قبلية ومناطقية وأخرى خارجية. أما في اليمن، فقد حصد الصراع آلاف الضحايا من المدنيين والأطفال”.

ويخلص التقرير إلى أن السكان في المنطقة العربية يعانون اللامساواة واللاعدالة الاجتماعية. ويرى أن الطريق إلى التنمية العادلة في المنطقة العربية حافل بالصعوبات وأن فئات اجتماعية عدة تعاني التهميش على أصعدة مختلفة منها القانوني والمؤسساتي والثقافي، إضافة إلى افتقارها الحصول على الخدمات الأساسية. كما يشير إلى أن “آمال تغيير أحوال التهميش في الدول العربية التي شهدت انتفاضات شعبية خلال الأعوام الماضية، سرعان ما أطفأتها الصعوبات الجمة التي تواجه التغيير”.

صعوبات التغيير

إلا أن أرض الواقع لا تشير إلى أن “الصعوبات الجمة التي تواجه التغيير” تعود فقط لغياب الديمقراطية واللامساواة واللاعدالة إلخ، ولكن أحد عوامل التهميش الكبرى الذي غالباً يتم إغفاله في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأممية والغربية، هو الصراع بين الرؤى الدينية السياسية من جهة وغير الخالطة الدين بالسياسة من جهة أخرى، سواء كانت استبدادية أو ديمقراطية أو ليبرالية أو قمعية أو مدنية أو غيرها من جهة أخرى.

الإقصاء والتهميش الناجمان عن رفض أو مقاومة أو معارضة الانضواء تحت مظلة وفي كنف وهيمنة وسيطرة تيارات الدين السياسي، تحديداً الإسلام السياسي في عدد من الدول العربية، يؤديان إلى أنواع غير موثقة من التهميش. ولأنه تهميش لا تمارسه الدولة في الأقل بشكل مباشر، ولا تفرضه القوانين نظرياً، ولا تنص عليه الدساتير والمواثيق صراحة، ولأنه تهميش تمتزج فيه الثقافة بالعادات بمساحة مكتسبة ومتوغلة ومتسللة من قبل كيانات رسمية وشبه رسمية وأهلية من المهيمنين على الأفكار والتفسيرات والقرارات الدينية، بما في ذلك تصنيف المواطنين بين صالح وطالح في حياتهم ومآلهم بعد موتهم، ولأنه تهميش يحظى برضا قطاعات عريضة من المواطنين أنفسهم ممن وقعوا ضحايا الفكر المتشدد وفرائس الترويع النفسي وطرائد فن وخز الضمير، فإن إدراجه ضمن أنواع الإقصاء والتهميش الواضح والمتزايد في عدد من الدول العربية غير وارد.

الدراسات والتقارير والبحوث، لا سيما غربية المنشأ، لا تعتبر هذا النوع من الإقصاء الذي يمارسه مواطنون على مواطنين آخرين إقصاء، بل يتعاملون معه على أنه اختيار حر لشخص أن يكون “متديناً” وآخر لا يختار الشكل نفسه من التدين، لا سيما أن كليهما ينتميان إلى المعتقد نفسه. كما أن مفهوم الإقصاء والتهميش التقليدي المرتبط مباشرة بعوار في الديمقراطية أو زيادة في الفقر أو إمعان في رفض أصحاب الإعاقات والأقليات والنساء، هو المهمين والحاكم.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، تشير دراسة أميركية عنوانها “الدين والسياسة في المراحل الانتقالية العربية” (2013) إلى أن دور الدين في السياسة العربية أمر يحدده سكان المنطقة العربية بأنفسهم وأن إقصاء الأحزاب والحركات الدينية عن السياسة لا يمكن أن يستمر، حتى لو أدى صعودهم إلى الحكم عبر اختيارات الناخبين أنفسهم إلى توترات سياسية. وذكرت أن المزاج العربي في عدد من الدول العربية يشير إلى أن العلمانية أو الفصل الكامل بين الدين والسياسة ليس أمراً وارداً في المستقبل القريب.

المستقبل القريب، ومن قبله الحاضر يشيران إلى أن التهميش في المنطقة العربية ليس فقط متعدد الأسباب والمظاهر، من فقر وحرمان من تعليم وإقصاء بناء على عرق ونوع وحال صحية وعقلية ونفسية وانتماء لأقليات وغيرها، بل تكتنفه كذلك عوامل قلما يلتفت إليها أحد، سواء من يقع عليه فعل التهميش أو يمارسه أو يدرسه ويبحث في أغواره.

نقلا عن اندبنت عربي

المقالة التالية
التشكيك في فعالية اللقاحات يعرض أطفال اليمن لخطر الموت
المقالة السابقة
“بدون” في اليمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

مقالات مشابهة :

الأكثر قراءه

━━━━━━━━━

كتابات

━━━━━━━━━