ما الذي يقوله نشطاء فئة المهمشين عن التمييز الاجتماعي بحقّهم؟

*خيوط

على مدار العقود الفائتة، ظل المهمشون في اليمن عُرضة لأنواع من التمييز الاجتماعي والاستغلال، وملف هذه القضية المجتمعية معقد ويواجَه بالمزيد من تهميش حقوق مواطنتهم، ومن ضمنها حق المشاركة في الحياة العامة والسياسية.

رغم القوانين الدولية التي تجرّم التمييز العنصري، ورغم القوانين المحلية النافذة التي تحرّم التمييز بين أفراد المجتمع اليمني، إلا أن المجتمع نفسه ساهم، منذ القدم، في تأصيل الانقسام الطبقي، وذلك بتصنيف هذه الفئة المجتمعية تحت مسمى “الأخدام”، وحصرهم على مهن محدودة، على رأسها النظافة والخرازة. وخلافًا لتنظيف الشوارع والمنازل والعمل في المهن الشاقة، مثل حمل البضائع ومواد البناء، ظل المهمشون طاقة مهدورة. وخلال سنوات الحرب الدائرة إلى الآن، شرعت سلطات الأمر الواقع في صنعاء -أنصار الله (الحوثيين)- باستثمار تلك الطاقة المعطلة، وذلك باستغلالهم كمقاتلين بعد أن خلعت عليهم وصف “أحفاد بلال”.
الشعور بفداحة التمييز
عالميًّا يعني وصف “الخادم” الشخص الذي يخدم في منزل أو لمصلحة عائلة معينة طوال الوقت، وفي اليمن يقتصر هذا الوصف على ذوي البشرة السوداء حتى لو كان الشخص يعمل لحسابه الخاص. وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن مصطلح “خادم”، كرسه علي بن مهدي الرعيني، مؤسس “دولة بني مهدي”، بعد تمكنه من هزيمة “دولة بني نجاح” في مدينة زبيد والقضاء على حكمها الذي دام 146 سنة، ثم تحولت التسمية إلى موروث ثقافي في حياة اليمنيين منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
ومع استسلام الغالبية العظمى من فئة المهمشين لهذه التسمية والتعاطي معها دون أي موقف، إلا أن ظهور شخصيات من هذه الفئة ثابرت في الحصول على حقها في التعليم العالي، جعلهم يشعرون بفداحة التمييز الاجتماعي تجاههم.
ويرى الباحث عادل فرج، وهو عضو في المكتب التنفيذي للاتحاد الوطني للفئات الأشد فقرًا في اليمن، أنه لا يوجد في التقسيم الطبقي في التاريخ اليمني القديم فئة أو طبقة اسمها “الأخدام”، بل كانت توجد طبقة العبيد الذين يقومون بكل الأعمال، بما في ذلك حماية سيدهم والدفاع عنه.
ومن حيث الوضع الاجتماعي، كان العبيد يُعامَلون كفئة أدنى داخل المجتمع، وكان المصدر الأساسي لحيازة العبيد هي الحروب، وكذلك عن طريق الشراء، حيث كانت أسواق بيع وشراء العبيد منتشرة في المدن اليمنية على ساحل البحر الأحمر. كما يعتبر استرقاق الأطفال الذين يولدون وآباؤهم وأمهاتهم في حالة عبودية، أحد مصادر امتلاك العبيد.
ويقول فرج، الذي ينتمي لفئة المهمشين في اليمن، في حديث لـ”خيوط”، إن هذه الفئة “تمثل شريحة اجتماعية لا يستهان بها، وإن كانت النسبة الحقيقية لهذه الفئة الفقيرة والمحرومة والمستضعفة، غير معروفة بدقة”.
ووفقًا لفرج، فإن من يسمونهم بـ”الأخدام” هم “أكبر أقلية عرقية وطنية، تنتمي تقليديًّا إلى المجتمع اليمني منذ عصور طويلة، وتنحدر من أصل أفريقي بدلالة الصفات البيولوجية التي تقترب كثيرًا من ملامح الإنسان الزنجي، سواء من حيث البشرة السوداء والشعر الفاحم المجعد، أو الشفاه الغليظة، وخاصة السفلى، والأنف الأفطس الذي يكون في الغالب ذا فتحات واسعة”.
مسميات مختلفة
تتكون فئة المهمشين في اليمن من طبقات ومسميات تختلف باختلاف أصولها، وذلك حسب المفهوم التقليدي السائد قبل ثورة 26 سبتمبر 1962.
فهناك مجموعة تسمى “اللحوج”، وحسب دراسة أصدرها “الاتحاد الوطني للفئات الأشد فقرًا” تطرقت إلى أصول المهمشين، فإن أفرادها جاؤوا إلى اليمن من شرق أفريقيا أو جنوبها الشرقي، قاصدين مكة المكرمة للحج وتخلفوا عن موسم الحج فاستوطنوا سواحل اليمن وعاشوا فيها، ولذلك سموا بـ”اللحوج”. وقد شاعت هذه التسمية في أزمنة سابقة في اليمن ودول الخليج العربي، وكانت تطلق على الشخص غير المهندم وغالبًا ما يكون أسمر البشرة، ومؤخرًا استبدلت التسمية في الخليج بـ”خال”، ويبدو أن لهذا التحول في التسمية علاقة بالإجراءات التي اتخذتها دول الخليج لتحرير العبيد في سبعينيات القرن العشرين الماضي.
وعلى ما في استخدام مصطلح “اللُّحُوج” لوصف مرحلة تاريخية من حياة المهمّشين في اليمن، من خلط كبير بين سكان محافظة لحج من غير المهمشين، وبين الفئة المهمشة التي عاشت في هذه المحافظة، إلا أن هناك مجموعة أخرى تسمى “الأحجور”، وهم جماعات من الرُّحّل، ينتقلون من مكان الى آخر بين المناطق الزراعية والمراعي، ولهم ملامح أفريقية تقترب وتختلف إلى حدٍّ ما، عن ملامح سكان القرن الأفريقي.
يذكر القمندان- أحمد فضل بن علي العبدلي، في كتابه “هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن”، لمحة عن التركيبة السكانية لمحافظة لحج في زمنه: “وفيها بطون عديدة من العبيد السود الذين يأتون من حجر في حضرموت فيعرفون في لحج بالأحجور، ومنهم باعجير وباهميل وباعساس وباجبل وبالحمر وبانفيل وباحسن وباهرب، وهم من مماليك الحضارمة أعتقهم سادتهم فتشعب منهم نسل أسود في الجهات الحضرمية يعرفون هناك بـ(الصبيان)”. (هدية الزمن… ص 297).
وفقًا للروايات التاريخية، كان هناك مجموعات تسمى العبيد، وهم الخدم فى القلاع والبيوت الكبيرة لشيوخ المناطق وبعض الأسر الهاشمية وسلاطين بني رسول، وهؤلاء يرون أنفسهم أرقى من الفئة المعروفة اليوم بالمهمشين. ومع اختلاف المسميات، فهم جميعًا يستطيعون أن يفرقوا تمامًا فيما بينهم، بين “العبد” و”الخادم” و”الحجري” و”اللحجي”.
رقعة تواجدهم وخصائصهم الثقافية
بحسب دراسة نفّذها “الاتحاد الوطني للفئات الأشد فقرًا”، يتواجد المهمشون في جميع محافظات اليمن بتوزيع سكاني متباين، حيث تمثل محافظات الحديدة 27%، وحجة 25% وتعز 15%، وهذه المحافظات الثلاث، تشكل ما نسبته 52% من الرقم الإجمالي لهذه الشريحة على مستوى البلاد.
تمتاز شريحة المهمشين بالاحتفاظ ببعض من التراث الإثيوبي في الموسيقى والرقص والتسميات الفردية، الأمر الذي يؤكد صلة كثيرين منهم بالأحباش، لكن ممارساتهم الثقافية لا تختلف عن الممارسات الثقافية للمجتمع اليمني المسلم، بحسب رؤية الباحث عادل فرج.
في عام 1948، بلغ عدد الأكواخ الخشبية المعروفة بـ”العُشش” في منطقة الشيخ عثمان بمحافظة عدن، ما يقارب 1400 كوخ، وكانت كلها تقع في أطراف المدينة، حيث امتدت من منطقة “مَصْعَبين” حتى وصلت إلى منطقة “السيسبان” الممتدة على الطريق إلى دار سعد، وهي الموضع المنسوب للأمير سعد بن سالم.
في منطقة “العُشش” تلك، كانت تتواجد المساجد والبقالات والمقاهي ومصانع ومحلات لنسج القطن وحظائر لتربية الأبقار، كما قدّر عدد سكان العُشش في الشيخ عثمان بحوالي سبعة آلاف نسمة، 30٪ منهم كانوا ينتمون لفئة العبيد، حسب مادة منشورة في صحيفة الأيام عام 2002. وحسب المادة نفسها، فقد كانت نسبة المهمشين حينها في المنطقة ذاتها، 20%، و5% من الصومال، و45% عرب تعود أصولهم إلى مدينتي زبيد غربًا والقاعدة شمالًا، وشرعب وذي السُّفال، وهم الأيادي العاملة في عدة أشغال مثل سلطة الضواحي والمِمْلاح، ولا يعادل دخل الفرد منهم في اليوم روبية واحدة.
أما سهراتهم وطقوسهم الاجتماعية، فتنقسم إلى نوعين، الأول يمتاز به العبيد، فيحيون في ليالي الصيف القمراء سهرات حول آلة “الطمبرة” المشهورة، ويؤدون بعض الرقصات التقليدية، إضافة إلى احتفالات أخرى أكثر شيوعًا، وفيها يقيم المهمشون في نطاق تجمعاتهم السكنية، سهرات في رأس كل شهر، خصوصًا إذا كانت نبتة القات زهيدة السعر.
مظاهر التمييز
حسب الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، يقصد بالتمييز العنصري “أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الاثني، ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، أو أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة”.
يعتقد الباحث في شؤون المهمشين عادل فرج، أن غالبية أفراد المجتمع اليمني يمارسون التمييز ضد فئة المهمشين من خلال مقابلة أفراد هذه الفئة بالازدراء، ونبذهم وعدم الرغبة في التعايش أو تناول الطعام معهم، حتى إذا كان البعض منهم يمتلك مؤهلًا علميًّا رفيعًا ويعمل في مهنة جديرة بالاحترام وفق معايير المجتمع، بما في ذلك الوظائف الإدارية الحكومية التي يحصل عليها بعضهم أحيانًا.
ويعتقد فرج، أن جذور هذا التمييز بدأت منذ سقوط دولة بني نجاح في زبيد على يد علي بن مهدي الرعيني، رغم أن هذه الفئة، كانت تتمتع بحقوق المواطنة المتساوية في جمهورية اليمن الديمقراطية التي كانت قائمة في جنوب اليمن قبل الوحدة.
وعقب تحقيق الوحدة اليمنية، وبعد توسع رقعة ظاهرة الترييف وشيوع العادات والتقاليد القبلية في مدينة عدن، عاد إلى السطح سلوك تحقير بعض الفئات الاجتماعية ومنها فئة المهمشين، وهذه تعد من أهم المشاكل المدنية والحضرية لمدينة عدن، التي انتكست فيها ثقافة المساواة ونبذ الدونية، حسب وصف فرج.
ذات الاعتقاد تقول به سميرة سيود، وهي ناشطة حقوقية ضمن “الاتحاد الوطني للفئات الأشد فقرًا” ورئيسة “جمعية أمان للفئات الأشد ضعفًا”. تقول سميرة لـ”خيوط”، إن ما تسمّيه “التمييز العنصري كان سائدًا في المناطق الشمالية من اليمن، وبعد الوحدة الاندماجية بين الجنوب والشمال، انتقل هذا التمييز إلى الجنوب، وعندها أصبحت هذه الفئة تتعرض للتهميش”.
ووفقًا لسميرة سيود، والتي تنحدر من محافظة لحج، الذين يتسم غالبية سكانها بالبشرة السمراء حد وصفها، فهي لم تعانِ من التهميش، ولا تنتمي للفئات المهمشة، لكن إحساسها بحجم ما تعانيه الفئات المهمشة، دفعها للانخراط في العمل بمنظمات المجتمع المدني، وكونها تعمل في إطار منطقة تعاني من تهميش الدولة، الأمر الذي ساعدها في عملها بشكل أكبر لصالح الفئات الأقل حظًّا، حسب تعبيرها.
تنشط سيود في مجال دعم النساء المعنّفات من فئة المهمشين، ويتركز نشاطها تحديدًا على زواج القاصرات؛ لأن في الزواج المبكر مخاطر كثيرة من التعنيف حسب قولها، كما أن الزواج المبكر ينتشر في وسط هذه الفئة بكثرة، ولا توجد إحصائية رسمية للمعنفات والزواج المبكر في إطار الفئة المهمشة حتى الآن.
تمييز السلطة
يتهم المهمشون السلطات اليمنية المتعاقبة، بممارسة التمييز ضدهم. وحسب الباحث فرج، فقد كان يمكن ملاحظة ذلك التمييز الذي وصفه بـ”المُبطّن”، من خلال “حجم التمثيل الضئيل بفرد واحد في مؤتمر الحوار الوطني، وعدم اهتمام السلطة بتلبية احتياجات هذه الفئة وعدم تضمينها في خطط التنمية العامة، ولو بالتدريج”.
ويضيف الباحث فرج أنه رغم قرار “لجنة الحقوق والحريات” بمؤتمر الحوار الوطني، بتضمين تقريرها توصيات بضرورة حماية حق المهمشين في المشاركة السياسية وتمثيلهم بنسبة 10%، إلا أن ذلك لم يتم تضمينه في “مسودة الدستور الاتحادي” المثير للجدل حتى الآن.
تعاني الفئة المهمشة من مشكلات عديدة، لعل أبرزها انخفاض مستوى التعليم العام والجامعي، وارتفاع نسبة الأمّية بين أفرادها، إلى جانب تدني مستوى الوعي الثقافي والسياسي والحقوقي. وإضافة إلى ذلك، توجههم للعيش في بيئة فيزيائية لا تتوفر فيها الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي، كما أن غالبيتهم لا تتوفر لديهم شهادات ميلاد وبطاقات إثبات الهوية الشخصية، وغير مستقرين في مساكنهم بسبب بقائهم عرضة للطرد من “المحاوي” (جمع محوى وهو اسم التجمعات السكنية للمهمشين)، التي يبنون فيها أكواخهم على أراضي مملوكة للدولة أو لأشخاص. وإلى ذلك، تنتشر البطالة بنسبة عالية بين أوساط الشباب والقادرين على العمل، وانتشار ظاهرة التسول وعمالة الأطفال بين نساء وأطفال الفئة المهمشة.
روايات اجتماعية تعمّق التمييز
يشكو المهمشون من تعاطي المجتمع معهم بتمييز غير موارب وجارح، ونسج حكايات وقصص تزيد من تعميق التمييز ضدهم، ومن تلك الحكايات أنهم يأكلون لحوم موتاهم، وأنهم يزوجون البنت في اليوم الثاني من طلاقها، ولا يغتسلون. وخلال الحرب الدائرة منذ أكثر من ست سنوات، تصاعدت تحذيرات نشطاء المجتمع المدني المنتمين لهذه الفئة، من استمرار عملية استقطاب المهمشين من قبل أطراف الصراع كمقاتلين في الصفوف الأولى، وهو ما يثير لديهم مخاوف من أن المقاتلين المهمشين يجري استخدامهم كوقود للمعارك.
خلافًا لذلك، يصمهم المجتمع بأوصاف من قبيل “البلطجية” و”المأجورين”، وبأنهم لا يدفنون موتاهم في مقابر المسلمين، وأن لديهم ضعفًا في الوازع الديني، ولا يضعون حدًّا لانتشار الإباحية الجنسية في أوساطهم، ومعظم هذه الوصمات غير دقيقة على أرض الواقع. إذ يدين المهمشون بدين الإسلام ويدفنون في مقابر المسلمين، كما أن هناك حالات من التديّن والمحافظة لدى بعضهم تفوق تديّن بعض أفراد القبائل.
ويرى الباحث فرج، أن سلوك التمييز ضد فئة المهمشين يخالف القوانين الدولية والوطنية ومبادئ حقوق الإنسان، من حيث كونها مخالفة لمبدأ المساواة وعدم التمييز، الذي يلزم المؤسسات العامة بأن تضمن تمثيل الجماعات المهمشة والمقصية من الإدارة العامة ومن هيئات صناعة القرار. إلى جانب كونها مخالفة لمبدأ المواطنة المتساوية والمشاركة السياسية.

المقالة التالية
بلا مأوى ولا إغاثة.. سيول تجرف مساكن المهمشين وتقذف بهم إلى المجهول 
المقالة السابقة
الوحدة التنفيذية بمأرب: آلاف المنكوبين من السيول يحتاجون للمساعدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

مقالات مشابهة :

الأكثر قراءه

━━━━━━━━━

كتابات

━━━━━━━━━